هذه ليست المرة الأولى التي يزور فيها وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت بيروت٬ في إطار المساعي التي تبذلها فرنسا لحل أزمة الفراغ الرئاسي المتمادية في لبنان٬ لكنها كانت هذا الأسبوع المرة الأولى التي حملت إلى المسؤولين صيغة معاكسة تماًما للمعادلة التي توضع دائًما في التداول٬ عند الحديث عن مسألة الفراغ الرئاسي.
لطالما قيل إن العقدة تكمن في «الخارج الإقليمي»٬ لكن إيرولت حمل نصيحة معاكسة عندما قال لكل الذين التقاهم٬ إن من الضروري لبننة الاستحقاق الرئاسي٬ بما يساعد على إقناع الأطراف الإقليميين المؤثرين بمباركة اتفاق الداخل: «لقد تردد دائًما أن القوى الإقليمية هي التي تختار رئيس الجمهورية في لبنان٬ فلماذا لا يتفق اللبنانيون مباشرة الآن على انتخاب رئيس٬ ولن يكون في وسع هذه القوى سوى مباركته؟».
السؤال الفرنسي وجيه طبًعا٬ لكن القوى السياسية في لبنان لا تملك جواًبا عنه٬ رغم أن زيارة إيرولت صادفت موعدين؛ الأول أنه مع وصوله بداية الأسبوع الثلاثاء الماضي كان اليوم رقم 779 على الفراغ الرئاسي٬ والثاني أن يوم الأربعاء كان موعد الجلسة رقم 42 لانتخاب رئيس٬ ولكن طبًعا من دون اكتمال النصاب البرلماني٬ فقط لمجرد دردشات فولكلورية بين نواب من «14 آذار» يداومون على حضور «جلسات البوش» في الغياب المتعّمد لمعظم نواب «8 آذار»!
عملًيا كانت الرسالة الفرنسية واضحة قبل أن يصل إيرولت إلى بيروت٬ في ظل تجدد التحليلات الواهمة التي تفترض دائًما أن كل موفد دولي يزور لبنان٬ يمكن أن يحمل معه حلاً لأزمة الفراغ الذي ينهش في الرئاسة وفي مؤسسات الدولة كلها٬ فليس سًرا أن الحكومة باتت أقل من حكومة تصريف أعمال٬ ولم يتواَن رئيسها تمام سلام في القول: إنها أضعف وأسوأ الحكومات التي عرفها لبنان٬ ولا سًرا أن مجلس النواب معّطل بحكم الدستور الذي يجعله هيئة انتخابية لا تشريعية بعد انتهاء مدة رئيس الجمهورية.
كانت مجرد تمنيات فرنسية مكررة تضاف إلى ما يسمعه اللبنانيون من كل الدول الصديقة «من الملّح التوصل إلى حل للأزمة التي تنخر لبنان٬ وأن مسؤولية حل هذه الأزمة تقع على الجهات السياسية اللبنانية»٬ لكن هذه الجهات إما غافلة هنا وإما عاجزة هناك وإما مرتهنة لحسابات ورهانات خارجية٬ وهنا تحديًدا تبرز العقدة الأساسية من خلال تمسك «حزب الله» الذي يتورط في القتال في سوريا٬ بسياسة التعطيل بوصفها عملية رابحة على خطين:
أولا: عدم الرغبة في وجود دولة لبنانية قوية تطالبه فوًرا بوقف توريط لبنان في الصراعات الإقليمية المتأججة خصوًصا في سوريا٬ وتدعوه إلى الانسحاب والكّف عن الانخراط في القتال على الجبهات التي تشعلها إيران في المنطقة.
ثانًيا: أن ذوبان الدولة اللبنانية وانهيار هيبتها وتفكك مؤسساتها في غياب رئيس للجمهورية يعيد دورة السلطة٬ قد توّفر في النهاية الحجة للمطالبة بالذهاب إلى مؤتمر تأسيسي٬ يبحث في تعديل النظام على قاعدة تغيير «اتفاق الطائف» الذي نّص على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين٬ ولطالما تردد رغم النفي أن «حزب الله» يريد المثالثة بين السنة والشيعة والمسيحيين.
هكذا يستمر الفراغ الرئاسي رغم أن «حزب الله» بات يملك رفاهية التقرير في شأن من يكون رئيًسا للجمهورية٬ خصوًصا مع وجود مرَشحين من «8 آذار»٬ بعدما تبنى الدكتور سمير جعجع ترشيح النائب ميشال عون حليف الحزب ومرشحه المعلن٬ وبعدما رّشح الرئيس سعد الحريري النائب سليمان فرنجية حليف الحزب أيًضا.. لكن الفراغ يبقى في حساباته أفضل بكثير من رئيس ولو من الحلفاء٬ لأنه سيعمل بالتأكيد على إعادة لملمة الدولة ومؤسساتها٬ وهو ما لا يتناسب إطلاًقا مع روزنامة تورطه في سوريا وغيرها من الساحات العربية.
كان واضًحا أن تشديد الوزير إيرولت على ضرورة لببنة الاستحقاق الرئاسي٬ يأتي على خلفية اقتناع باريس بأن من غير الممكن أو المفيد رهن الحل اللبناني بالخارج الإقليمي٬ وفي السياق قال إن «باريس على اتصال دائم مع إيران والمملكة العربية السعودية٬ وإنها تشدد دائًما مع كل محاوريها وشركائها على ضرورة إنهاء الأزمة في لبنان»٬ وإنه لهذا أجرى محادثات معّمقة مع الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي٬ ومع نظيره الإيراني محمد جواد ظريف٬ وأن على جميع الجهات الفاعلة أن تدرك أن من مصلحتها إنهاء الأزمة.
ولكنَ من تحديًدا هذه الجهات؟
إيرولت كاد يسمي إيران و«حزب الله» علًنا٬ لكن اكتفى بتلميح جاء في مستوى التوضيح عندما قال إن «عملية الانتخابُمعرَقلة حالًيا٬ خصوًصا لأن البعض يمنع إجراءها..
يجب عزل حل الأزمة في لبنان عن المسألة السورية»٬ ولكن من الذي يعرقل؟ إنه طبًعا الذي حال ويحول دون اكتمال النصاب النيابي على امتداد 42 جلسة٬ ومن الذي يربط الأزمة بالمسألة السورية؟ إنه الذي يتورط في القتال في سوريا دون أفق واضح لنهاية هذه الحرب!
لم يكن إيرولت وحده الذي حّذر من أن الأزمة تنخر لبنان٬ وأن من الضروري وسط الظروف الخطرة والحرائق المشتعلة في المنطقة تحييده عبر إعادة لملمة الدولة ومؤسساتها من خلال بوابة واحدة٬ وهي انتخاب رئيس للجهورية.. فعشية وصوله إلى بيروت كانت المنسقة الخاصة للأمم المتحدة في لبنان سيغريد كاغ٬ قد قدمت نهاية الأسبوع الماضي في جلسة مغلقة لمجلس الأمن٬ إحاطة مهمة عرضت الواقع الحساس في لبنان٬ سواء لجهة الأزمة الداخلية التي تعصف بالدولة ومؤسساتها٬ وسواء لجهة التطورات المتأججة على الحدود اللبنانية.
وفي هذا السياق٬ برزت مطالبتها مجلس الأمن بتقديم مزيد من الدعم إلى الجيش اللبناني٬ وأن «هذا الدعم يشكل ضرورة لا ترًفا٬ خصوًصا أن الهجمات الإرهابية على بلدة القاع تشّكل مثالاً على السياق الأمني المقلق»٬ ولهذا ورغم حرصها على إبداء احترامها الكبير للجيش اللبناني وكل الأجهزة الأمنية والعمل النموذجي الذي تقوم به٬ فإن رسالتها الأساسية إلى مجلس الأمن تضمنت إعراًبا عن القلق من هشاشة لبنان وخطر زعزعة استقراره.
صوت كاغ في مجلس الأمن جاء صرخة دولية جديدة.. أعربت صراحة عن القلق المتزايد من اضمحلال مؤسسات الدولة اللبنانية واختلال وظائفها وعدم قدرتها على اتخاذ القرارات الضرورية والملحة٬ لكن كل هذا لا ولن يحول دون المضي في سياسة التعطيل٬ التي لا تبقي لبنان بلا رئيس للجمهورية 779 يوًما فحسب٬ بل تعمل على تدمير الدولة وتفتيت مؤسساتها وانهيار أسس الانتظام العام الذي يجعل لبنان واقًفا على بوابة الدول الفاشلة!