إذا صدقت التكهّنات بأن المنطقة دخلت مرحلة التسويات، فذلك لا يعني أن الحلول ستقدّم إلى لبنان على طبق من فضّة. التسويات المحكى عنها قد تحمل إلى لبنان تحدّيات مصيرية بدل الحلول السحرية، لأنها ستوزّع دول المنطقة مناطق نفوذ بين الطوائف والإثنيات وحلفائها من القوى الإقليمية. فأي لبنان سيكون في فسيفساء النظام الإقليمي الجديد؟
الطبقة السياسية في لبنان لا تعير هذا الموضوع أي اهتمام، مع أن لبنان سيتأثر حكما بالتسويات المحتملة وبالنظام الإقليمي الذي سيتأسّس عليها. الأولويات اللبنانية أقلّ شأنا وأهميّة بما لا يقاس: تعيينات وترقيات وآليات، ومناورات ومحاصصات، وأزمة نفايات افتعلها أصحاب مصالح وأشباح تختبئ خلف الظلام.
منذ توقيع اتفاق فيينا بين إيران والدول الغربية لم تهدأ الحركة الدولية الساعية إلى ابتكار الحلول. الأرجح أن داعش، الاختراع العجيب، رغم وجوهه المأساوية، له جانب إيجابي وحيد، إذ ولّـد دافعا قويا لدى الروس والأميركيين، والإيرانيين والخليجيين، لحل الأزمات المستعصية في المنطقة وتوحيد كل القوى لمحاربة الإرهاب. وهكذا بدا الانسجام واضحا بين موسكو وواشنطن، وبدأ الكلام الصادر عنهما يدعو إلى تعاون ايراني خليجي، وعقدت لقاءات يرقى بعضها إلى مستوى «المعجزة».
الروحية التي تتعاطى بها الأطراف الدولية قاعدتها أن أيا من الأطراف الإقليمية لن يخسر ويخرج من السباق، فكل له حصّته في التسوية النهائية. وذلك يوحي أن التسوية، التي سيربح فيها الجميع، سترسم خريطة طائفية واثنية توزّع مناطق النفوذ على إيران وتركيا والخليج. لا يعني ذلك بالضرورة إلغاء الحدود الدولية الراهنة واستبدالها بحدود جديدة، بل يعني، على الأرجح، توزيع الدول القائمة كيانات متفرّقة، ومتباغضة. وقد لفت الأنظار تصريح إيران أن مبادرتها المتعلقة بحلّ النزاع السوري تتضمّن تعديل الدستور بما يتوافق «وطمأنة المجموعات الإثنية والطائفية».
ماذا يحصل في لبنان إذا سارت التطورات في هذا الاتجاه؟ وهل يمكن لعاصفة «اللامركزية الطائفية» أن تضرب دولا كانت حتى الأمس خاضعة لنظام مركزي مفرط في شدّته، ويبقى الكيان اللبناني الهش عاصيا على التقاسم والتقسيم؟
المركزية اللبنانية المصطنعة أنتجت دولة مركزية فاشلة وإدارة على شفير الانهيار. دمّرت المناطق الريفية وساهمت في خلق بؤر الفقر حول المدن الكبرى، وفاقمت البطالة وأجّجت الحساسيات الطائفية والاجتماعية.
بالمقابل، فإن اللامركزية الواسعة، إذا بنيت على قاعدة تقاسم الطوائف للجمهورية اللبنانية، ستؤدّي إلى مهالك وسلسلة لا تنتهي من الحروب، الكبيرة والصغيرة.
احصائيات الأمم المتحدة بيّنت أن سكان المدن في لبنان يشكلون 88% من السكان، وسترتفع نسبتهم إلى حوالي 90% سنة 2030 و92% سنة 2050. وحسب المصدر نفسه، تضاعف عدد سكان المدن اللبنانية من 2.2 مليون نسمة سنة 1990 إلى 4.4 مليون في العام الجاري، ويتوقع أن يبلغوا خمسة ملايين نسمة سنة 2050.
الاحصائيات المصرفية، بدورها، تظهر التمركز الاقتصادي الشديد، القاتل للاقتصاد والمجتمع. وهذه الاحصائيات معبّرة لأن النشاط المصرفي يلحق تلقائيا وعفويا مراكز النشاط الاقتصادي في البلاد.
في بيروت الإدارية وحدها 53% من الفروع المصرفية، وتبلغ النسبة 72% في بيروت وجبل لبنان معا. أما في البقاع، على سبيل المثال، فلا تزيد الفروع المصرفية عن 7% من عددها الإجمالي. تستأثر بيروت وضواحيها بسبعين بالمئة من الودائع المصرفية وما يقارب 80% من التسليفات.
هذا التمركز هو سبب معظم اختناقات الاقتصاد، وعلة الفقر الذي نراه بأمّ العين. بالمقابل، فإن فك التمركز الديموغرافي على أساس طائفي يؤدّي إلى هدر بحار من الدماء.
سنة 1845 قسم وزير خارجية الدولة العثمانية شكيب أفندي جبل لبنان إلى قائمقاميتين، للحدّ من النزاعات بين الموارنة والدروز، ولكن أوضاع الأقليات في المناطق المختلطة تحوّلت إلى مشكلة بقيت تتفاعل حتى تحوّلت إلى حرب طائفية، أين منها الحروب التي سبقتها.
والمناطق اللبنانية اليوم أكثر اختلاطا بما لا يقاس عمّا كان عليه جبل لبنان في القرن التاسع عشر، وإفرازها المستحيل إلى مناطق طائفية صافية هو أكبر خطر يواجه اللبنانيين في تاريخهم كله.
بين اتجاهات الحلول «الفدرالية» في المنطقة والحاجة إلى تخفيف التمركز الديموغرافي والاقتصادي في لبنان، وبين المخاطر الجسيمة للفرز الطائفي، يمكن استباق التطوّرات بالاستشراف وبعد النظر والحوار. ولكن ذلك يقتضي أخذ القابضين على السلطة إجازة من التعيينات والترقيات والنفايات، والانصراف إلى حوار صادق وعميق، لتجنيب لبنان ما قد يستحيل شرّا مستطيرا.