مرعب هذا التناقض بين المشهدين الإيراني والسعودي. وأخطر ما فيه احتمال تداعياته اللبنانية. الإيراني مرتاح. مسترخ. فيما السعودي مستنفر، متوتر. ازدواجية نزاعية تصادمية، قد لا تمر على خير في بيروت.
صورة وقائع الأمس ومواقفه وتطورته، أبلغ تعبير. الموفد الرئاسي الإيراني، نائب وزير الخارجية مرتضى سرمدي، زار لبنان أمس، موزعاً بسماته بغزارة. يتكلم بهدوء يلامس البطء الشديد. كأنه يعدّ حروفه وينحت الكلمات. يحرص عند كل عبارة وإجابة على تأكيد اطمئنان بلاده وارتياح سلطاته إلى كل التطورات في المنطقة. من نووي طهران إلى حرب اليمن وصولاً إلى سوريا ولبنان. بثقة كاملة، وبنفحة انتصارية مكبوتة، يتحدث عن اتفاق 2 نيسان بين بلاده ومجموعة الست. يؤكد أن ما حصل خطوة تاريخية. وأن نتائجها بدأت وستتوالى. لا يعير اهتماماً للكلام عن احتمالات العرقلة في الأشهر الثلاثة المتبقية من مهلة التفاوض للتوصل إلى اتفاق النهائي. ولا يعبأ بالنقاش حول آلية إقرار الاتفاق أميركياً. يكاد لا يسمع بزعيق نتنياهو المعترض. ولا بذعر بعض الخليج. يجزم بأن المسار قد بدأ. وبأنه سيستكمل. وسيتوّج. وأن كل نتائجه ستكون إيجابية.
في الحديث حول اليمن، يصير كلام المسؤول الإيراني أكثر غمزاً من كل القنوات. يعتمد صيغة الأسئلة ليقدم أجوبته اللاذعة. يسأل: ماذا يفعل السعوديون هناك؟ ما الذي أوقعهم في تلك الورطة؟ ألا يعرفون أنهم لن يصلوا إلى أي نتيجة في ذلك المستنقع الذي ذهبوا إليه؟ باتوا محشورين بين الاستمرار في عمليات قصف جوي تثير العالم ضدهم، وبين محاولة التوغل براً، والتي قد تحمل مخاطر قاتلة لهم. يتحدث المسؤول الإيراني عن معلوماته، في صيغة الاستيضاح. ببراءة من يستكشف ويستطلع ويستجمع معطيات يدركها تمام الإدراك، يتساءل عمن رمى قشرة الموز تلك للرياض في شرم الشيخ؟ وعن حقيقة الموقف الأميركي من الخطوة السعودية. هل تبدو واشنطن متحمسة للمعركة؟ يسأل ببسمته الدائمة. كلام أوباما عن تبادل معلومات ومعطيات استخبارية وعن دعم وتأييد… كله يسقط عند عبارة واحدة في مقابلة الرئيس الأميركي مع توماس فريدمان في نيويورك تايمز: الخطر الأكبر على حكام الخليج ليس إيران. بل سخط شعوبهم ضدهم. هل من إنذار أبلغ من هذا؟
يستعيد المسؤول الإيراني في جولته اللبنانية، كل المشهد الإقليمي. يؤكد أن إدارته ليست محشورة بأي ملف ولا بأي وضع. كل التطورات تراها في اتجاه مصالحها وحساباتها. إردوغان كان عندنا اليوم. هذا ليس تفصيلاً. نحن نبحث معه في الاقتصاد والتبادل التجاري. وهو يحاول فتح كل الملفات. وصولاً إلى سوريا. هنا في سوريا، لا يزال حديث جون كيري عن ضرورة الكلام مع بشار الأسد يقضّ مضاجع الجميع. لن ينسوه. وهو كلام ليس للكلام، بل للتنفيذ. هم يدركون ذلك جيداً. والأسد أيضاً. كل الباقي لعبة مكشوفة الحسابات. ماذا سيفعل الإيرانيون حيال هذه المآزق كلها؟ مستعدون لأي مساعدة. لا مشكلة عندهم مع أي طرف. جاهزون للتعاون، حتى مع السعوديين لإخراجهم من ورطتهم. على الأقل ليثبتوا لهم أن إيران ليست من يحرك الأرض المتفجرة من اليمن إلى سوريا. متى يفعلون ذلك؟ كيف يبادرون نحو الرياض؟ هل لخطوة كهذه علاقة بالجدول الزمني للاتفاق النووي؟ وحدها البسمات الإيرانية تجيب عن كل التساؤلات.
في مقابل هذا الهدوء الإيراني، يبدو التوتر الخليجي في ذروته. لا قدرة على سماع صوت واحد مختلف أو معترض أو منتقد. لا مكان لملاحظة ولو في الشكل. لا سماح حتى مع الصمت. الجميع مدعو إلى المشاركة في حلقة الدبكة التي انعقدت تحت لواء عاصفة الحزم، مزايدة وتبخيراً. اعتذار وزير الإعلام، أضعف الإيمان. ولو كان خرقاً لكل الأعراف الدستورية والدبلوماسية والقانونية الدولية، لجهة اعتذار وزير من سفير. ولو كانت العلاقات الدبلوماسية بين الدول، بحسب معاهدات فيينا، تمر عبر وزارة الخارجية. إعلان بطرس حرب عن خجله من منتقدي السعودية، أقل الواجب. الاتصال الهاتفي الذي تطوع أحد الوزراء للقيام به حيال أحد موظفي تلفزيون لبنان، والكلام المرتفع الذي تضمنه، من البديهيات الضرورية للمرحلة. بيان سعد الحريري بعد يومين على الحادثة، مؤشر دقيق إلى حقيقة المزاجات والنيات. لا مهادنة. لا تراجع. لا مجال حتى للحياد. الكل في المعركة. من ليس عاصفاً معنا، عدو لنا. وعداوتنا مطلقة شاملة وكاملة.
أجواء بيروت بين استرخاء طهران واستنفار الرياض، تشير إلى تداعيات محتملة. ثمة خوف كبير من إجراءات قد تطال لبنانيين في أكثر من بلد خليجي. وصولاً حتى إلى توجس من خطوات أكثر جذرية، قد تبلغ حدود استدعاء سفير لتشاور، أو تبليغ رسائل دبلوماسية، بلهجات لا تمت إلى الدبلوماسية بصلة. كأن المواجهة صارت من نوع النزال القاتل. رجل واحد سيخرج حياً من الساحة. الضغط يلامس الانهيارات. كل فشات الخلق تصير ممكنة في هذه اللحظة.