التسوية في اليمن ستشكّل القاعدة والمنطلق لكل التسويات في المنطقة، خصوصاً أنّ طبيعة الأزمات متشابهة، والاختلاف إذا وجد هو في الشكل والتسميات من قبيل «أنصار الله» في اليمن و«حزب الله» في لبنان.
ما سينطبق على اليمن، سينسحب أيضاً على العراق وسوريا ولبنان، لأنه لا يمكن أن يُزال السلاح الحوثي في اليمن، ويبقى سلاح «حزب الله» في لبنان. فالمعيار سيكون هو نفسه في كل مكان، لا استثناءات هذه المرة على طريقة سلاح ميليشياوي يُنزع، وسلاح مقاوم يُقدّس، لأنّ السلاح في نهاية المطاف هو سلاح بمعزل عن تسميته، والقاعدة واحدة في كل زمان ومكان: كل ما هو خارج الدولة هو سلاح ميليشياوي.
ولا يستطيع «حزب الله» أن يقنع أحداً بعد اليوم أنّ سلاحه يعمل وفق شعار «لكلّ مقام مقال»، فيقاتل إسرائيل في مكان، والسنّة في مكان آخر، ويدافع عن المحور الإيراني في كل مكان. وإذا كانت غلطة الشاطر بألف، فغلطة الحزب مضاعفة، مرّة في شوارع بيروت، ومرّات في شوارع سوريا والعراق وصولاً إلى مواجهة شخصية-مذهبية مع السعودية دَلّت عن حقد دفين أكثر من أيّ شيء آخر.
وفي سياق المعايير الواحدة للتسوية في المنطقة، لن تترك القضية الفلسطينية مجالاً للمزايدة الإيرانية، خصوصاً أنّ توسّع المشروع الإيراني بدأ تحت هذا العنوان الذي سيسحب من اليد الإيرانية إلى اليد الفلسطينية-العربية. ومن يعتقد أنّ الاستفاقة العربية-السنّية تنتهي مع اليمن، فهو مخطئ، لأنّ اليمن هو البداية التي ستمتد إلى المنطقة كلها من أجل الوصول إلى تسوية شاملة، والإبقاء على أيّ ثغرة سيهدد التسوية برمّتها، ومن هنا ما سينطبق على الحوثي في اليمن سينسحب على «حزب الله» في لبنان ونظام الأسد في سوريا والميليشيات الشيعية في العراق.
فالتسوية السعودية-الإيرانية برعاية دولية إمّا تكون شاملة أو لن تكون، وإذا كان غياب التسوية في المرحلة السابقة شَكّل مصلحة إيرانية من منطلق ربطها للنزاع مع إسرائيل والغرب واستخدام الساحات العربية بالشكل الذي يخدم مصالحها ويقوّي نفوذها ودورها، فإنّ استمرار الوضع الحالي مع نشوء التحالف العربي-السنّي لم يعد يخدم طهران ومصالحها، لأنها ستكون مُخَيّرة بين نموذجين: نموذج القوة الذي استخدم في اليمن، وبين الذهاب طوعاً إلى تسويات متوازنة تحت عنوان الدولة.
وما حصل في اليمن دَلّ على مفارقتين: وَهم القوة الإيرانية التي كانت تخيف العرب الذين أسقطوا هذا الوهم في اللحظة التي توحّدوا فيها وقرروا المواجهة، والمفارقة الثانية استناد طهران من أجل تمددها ونفوذها على الميليشيات. فطهران استفادت من عاملين: غياب الرؤية ووحدة الموقف العربيّين، والعامل الثاني رفض السعودية مواجهة إيران بالسلاح نفسه، أي بدعم ميليشيات سنية في مواجهة الميليشيات الشيعية.
ولكن سرعان ما عادت طهران واصطدمت بتطوّرين: صعود التطرّف السنّي بفِعل الأزمة السورية وتمدده إلى العراق ولبنان الذي كان لـ«المستقبل»، بضوء أخضر سعودي، الدور الأساس في إخراجه منه. فالفوضى أدّت عملياً إلى نشوء ميليشيات سنية في مواجهة الميليشيات الشيعية، مع فارق أنّ الأخيرة مدعومة إيرانياً، فيما الأولى محارَبة سعودياً. والتطور الثاني تمثّل في قيام التحالف العربي-السنّي بعد أن أشعرت إيران كلّ سني أنّ أمامه خيارين: الخضوع لنفوذها أو لنفوذ «داعش».
وقد أدّت هذه التطورات إلى وضع إيران أمام توجهين: وضع يدها بيد السعودية لمواجهة التطرف السني وترتيب المنطقة على قاعدة مفهوم الدولة لا الثورة، أو الانزلاق إلى مواجهة سنية-شيعية مزدوجة: ميليشياوية-ميليشياوية ومن دولة لدولة.
وهذه المواجهة لن تكون لمصلحة إيران التي خسرت اليمن والعراق وسوريا ولبنان، وما تبقّى لها من نفوذ يعمل على الموجة السلبية والتعطيلية، بمعنى انها فقدت القدرة على إنشاء محور شيعي-مقاوم، وتحوّل تركيزها على منع قيام دول طبيعية.
ولكنّ الأساس هو أنّ المنطقة دخلت برمّتها عصر «الحزم» و»الأمل»، ومَن سيرفض «الأمل» سيواجه بـ»الحزم»، ولا خيار ثالثاً بين التوجهين، والوقت لم يعد يعمل لمصلحة محور المقاومة المطوّق نووياً بزنّار دولي، وإقليمياً بزنّار عربي-سنّي.
ومن يريد أن ينتظر ما ستَرسو عليه اليمن، فلا بأس من انتظاره، لأنّ النموذج اليمني سيعمّم على المنطقة كلها، خصوصاً أنّ مَن بادرَ إلى هذا الربط هو محور المقاومة نفسه. فإذا حافظ الحوثي على سلاحه، يحافظ «حزب الله» على سلاحه، والعكس صحيح بطبيعة الحال. ولكنّ المؤشرات والوقائع ومنحى التطورات والتوجهات تجزم بأنّ عصر الميليشيات في العالم العربي انتهى…