خلافاً للطبيعة، لا يزال قانون الإنتخاب اللبناني يخضع إلى عمليات تهجين مستمرة في مختبرات التّزمت المذهبي وضيق الأفق السياسي. الهدف المحدّد الخروج بقانون يحقق تمثيل الطوائف بما يضمن نقاء العرق وصفاء الأصل من قِبَل من أعلنوا انفسهم أوصياء على مصالحها، وكلّ ذلك على أساس النسبية. المغالطة الكبرى في القانون هي في الجمع بين التمثيل المذهبي والنسبية. استخدام الصوت التفضيلي لتحديد تراتبية المرشحين لن يقدّم سوى تصنيفاً مذهبياً لهم، إذ سيعطي اللبنانيون في هذا الجو المذهبي صوتهم التفضيلي لمرشحين من مذاهبهم مما سيُبقي الأقليات الطائفية في قعر اللوائح وسيكرس مناخاً طائفياً بين المرشحين ضمن اللائحة الواحدة وبين ناخبيهم على السواء. هذا بالإضافة إلى إمكانية أكيدة لوصول مرشحين غير حائزين على أصوات وازنة سواء على مستوى اللوائح أو على مستوى الصوت التفضيلي.
القانون الجديد هو خطوة في الإتّجاه المعاكس لتطبيق إتّفاق الطائف، سيما أنّ الملاحق المرفقة به والمتعلقة بتشكيل مجلس الشيوخ وتطبيق اللامركزية الإدارية وتثبيت المناصفة، أقل ما يُقال فيها انّها تمثل تغييرات أكثر جذرية وعمقاً في النظام السياسي اللبناني من قانون الإنتخاب المزعوم. فتكريس المناصفة يلغي المادة 95 من الدستور التي تعتبرها مرحلة إنتقالية، كما أنّ المادة 22 من الدستور تفترض التزامن بين تشكيل مجلس الشيوخ وانتخاب أول مجلس نيابي على أساس وطني لا طائفي، كما أنّ ذلك يناقض الفقرة «ح» من مقدّمة الدستور التي تعتبر إلغاء الطائفية السياسية هدفاً وطنياً أساساً يقتضي العمل على تحقيقه، أما اللامركزية الإدارية فتبقى موضوعاً خصباً للنقاش يتجاوز حدود جلسة مناقشة في الحكومة أو في جلسة تشريع في عقد إستثنائي محدّد البنود، مما سيقصُر إمكانية إقراره على خطوطه العريضة ليس إلا….!!!
لماذا لم يقترح المنظّرون للقانون الجديد، لو كانوا جادّين في الذهاب نحو الطائف، أن تتخلى الطوائف عن عدد من المقاعد، بشكل نسبي، يتم الترشّح إليها من خارج القيد الطائفي، لإعطاء اللبنانيين المجال لخوض هذه التجربة وتقديم نموذج عن قدرتهم الفعلية للتحرر من القيد الطائفي؟. أو بمقاربة أخرى لماذا لم يُقترح مثلاً السماح للمواطنين بالإقتراع في أماكن إقامتهم بدلاَ من أماكن قيدهم التي لا يزورونها إلا للمشاركة في بعض الإجتماعات التقليدية أو للمشاركة في الإنتخابات، أو هم في أحيان كثيرة يتجنّبون الذهاب إليها لأنّهم يرفضون واقعها السياسي وهيمنة قوى الأمر الواقع عليها، لاختبار مدى التماهي والإنسجام والتفاعل مع مجتمعهم الحقيقي الذي اختاروه بأنفسهم. هذا التدبير لا يقلّ أهمية عن محاولات التفتيش في أصقاع المعمورة عن مغترب هنا ورجل أعمال هناك لإعادته إلى الوطن واستنفار كلّ الإمكانات لتأمين مشاركته في الإنتخابات.
إنّ بداية تشكّل الكيان اللبناني انطلقت من إمارة جبل لبنان التي استقطبت الفلاحين والحرفيين من كسروان الى جبل لبنان الجنوبي بتشجيع من مؤسّس الإمارة الأمير فخر الدين، الذي استطاع تحويل التركيبة السكانية المختلطة إلى مجتمع له اقتصاده، مبني على التكافل الفريد بين موارنة كسروان ودروز جبل لبنان. وقد ساهم هذا الإقتصاد في تطور مجتمع مديني في بيروت وصيدا حول المرفأيّن والمدينتين اللتين لعبتا دوراً في تبلوّر لبنان ككيان قابل للحياة. هذا النموذج استمر في استقطاب اللبنانيين من الأرياف، وشكّل خلال النصف الثاني من القرن الماضي اختباراً لقدرة اللبنانيين من طلاب وموظفين وأرباب عمل على تشكيل مجتمع مديني يعود إليه وحده الدور في تطوير الحياة السياسية والثقافية وإنشاء الأحزاب والجمعيات والنقابات وإطلاق المنتديات الفكرية والإعلامية التي شكّلت مثالاً يُحتذى على امتداد القرن الماضي وأمّنت الإنصهار الإنسيابي في فكرة الدولة وهو ما زال يشكّل جهاز المناعة للبنان. فلماذا هذا الإصرار على استتباع المواطنين لطوائفهم تمهيداً لإلحاق الدولة بالطوائف أو جعلها في خدمتها؟
إنّ السير بقانون الإنتخاب المزعوم هو خطوة نحو إسقاط فكرة المجتمع المديني في لبنان ـــــ بما هي تجربة ضرورية نحو قيام الدولة خارج القيد المناطقي والطائفي ـــــ والتمسّك بثقافة سياسية أهلية وبخصوصية دينية لا تمهّد ولا تساعد على عملية الإنتقال الديمقراطي ولا على استيعاب الشروط الإجتماعية والقانونية التي تفترضها صيغة المواطنة والتي من أهم مقوّماتها المشاركة السياسية عبر الإقتراع العام وعبر المؤسسات التمثيلية وأهمها البرلمان؟
هنيئاً للبنانيين بما سيتبقى من مقاعد سيُنتخب ممثّلوها من مواطنين مسلمين ومسيحيين، وليس على قاعدة تمثيل هذه الطائفة أو تلك، مقاعد شاءت الصدف أن لا تشملها ثقافة القرون الوسطى الجديدة في لبنان …..