يقف لبنان السابح في الفراغ، وسط مسار مفتوح على تردّدات انقلابية قد تغيّر خريطة القوى والتوازنات في منطقة الشرق الأوسط، كما لم يحصل منذ اغتصاب فلسطين وقيام الكيان الاسرائيلي! لا شيء يؤشّر، إلى أن حركة داخلية من قلب لبنان ستمنحه القوة والمناعة أمام مفاجآت الترددات الانقلابية. خسر لبنان فرصة «لبننة» الانتخابات الرئاسية. والآن وقد لامس تاريخاً عزيزاً على اللبنانيين المؤمنين بلبنان أولاً وبالاستقلال والسيادة في 14 آذار، لا يبدو أنه استعد للتعامل بجدية مع استحقاقات ذلك اليوم المجيد. أسوأ من ذلك أن لبنان كما كان تاريخياً مشدوداً إلى الخارج باقٍ على عادته وكأنَّ ذلك جزءاً مولوداً معه، إلى درجة أن البعض يردّد، لا غرابة في ما نعيشه. لبنان كان وما زال يعيش من انقساماته داخلياً وخارجياً، لذلك يجب الآن انتظار ما بعد الاتفاق الأميركي الإيراني، الذي سيعلن قبل 20 آذار الموافق عيد النوروز الإيراني بعد ذلك تتبلور تفاصيل الاتفاق التي تبدو عميقة وخطيرة إلى درجة تهديد جون كيري نتنياهو بعدم كشفها.
لا يوجد منتصر ومهزوم في اتفاق مثل الاتفاق الإيراني الأميركي متى وقّع. التنازلات المتبادلة إجبارية. مسألة امتلاك إيران للسلاح النووي لا تخيف الأميركيين، لأنهم يعرفون أنه لا يشكل خطراً عليهم. الإيرانيون مثل الكوريين الشماليين يعلمون أن القنبلة النووية ليست سلاحاً للاستخدام. النقاش والمفاوضات تدور أساساً حول ضمان أمن إسرائيل من جهة ومن جهة أخرى ضمان أمن النفط. لقد سبق لواشنطن أن دعمت إسرائيل في حرب 1967 عندما أقفل جمال عبدالناصر باب المندب، وقادت أيضاً حرب «عاصفة الصحراء» ضد صدام حسين عندما غزا الكويت وكاد يضع يده على قرار النفط انتاجاً وأسعاراً ويصبح تهديداً للمملكة العربية السعودية.
لذلك في قلب المفاوضات الأميركية الإيرانية، فإن طبيعة ونوعية الضمانات التي ستقدمها طهران لإسرائيل بعدم تهديدها مباشرة أو غير مباشرة («حزب الله« والتنظيمات الفلسطينية). السؤال كيف ستتم ترجمة هذه الضمانات، خصوصاً ما يتعلق بفلسطين أو «حزب الله«. لا يمكن لإيران أن تمتلك القوة النووية السلمية وأن تصبح قوة إقليمية كبرى، وفي الوقت نفسه تستمر في جعل الحرب والسلام معلّقين على قرارها. ما يؤكد ذلك أن واشنطن الملتزمة التزاماً مطلقاً بإسرائيل وجوداً وأمناً، وضعت بنيامين نتنياهو في الزاوية أمام مأزق احترام مواقفها واستراتيجيتها، فكيف بإيران؟
سؤال آخر يهم اللبنانيين ماذا ستطالب إيران لـ»حزب الله« بديلاً عن انخراطه في المتغيرات القادمة في الشرق الأوسط؟ لقد غيّر «الحزب» وظيفة «بندقيته» من «المقاومة» الى وضعها في خدمة الاستراتيجية الإيرانية من حلب الى صنعاء مروراً بسوريا والعراق. «الحزب» قوي في لبنان وعليه واجب تقديم «التعويض» لحاضنته الشعبية والمذهبية، لذلك حتى الآن ما زال يحصّن موقعه أمام حالة الفراغ التي تستنزف لبنان دولة واقتصاداً بالوقوف خلف الموقف المسيحي ممثلاً بالجنرال عون. لكن متى اكتملت معادلة الشرق الأوسط الجديد، بتعاون أميركي إيراني فإن النظام اللبناني سيكون جزءاً من التغيير الكبير. لا شك أن اتفاق الطائف سيكون أكبر ضحاياه والمثالثة أفضل ما سيحصل عليه المسيحيون مع الجنرال عون أو من دونه.
إسرائيل خاسرة كبيرة، متى اكتمل الاتفاق الإيراني الأميركي مع نتنياهو أو من دونه. ستجد إسرائيل نفسها أمام قوة إقليمية صاعدة وشرهة هي إيران. إسرائيل ستبقى معزولة سواء استمر التشتت العربي والإسلامي، أم تشكّلت جبهة أو حلف عماده «ترويكا» تضم السعودية ومصر وتركيا. اتفاق أعضاء هذه «الترويكا» يتيح لهم ضبط «الشهية» الإيرانية عند حدود معيّنة. إيران يمكنها الاستفراد بدول المنطقة دولة دولة وزرع نفوذها، ولكنها ستحسب ألف حساب أمام هذه «الترويكا» التي تدافع عن وجودها.
لبنان ليس وحده في انتظار ما سيحدث في آذار. المنطقة كلها معه في الممر الإلزامي نحو التغيير. المستقبل لا يصاغ حالياً في المنطقة وإنما على المنطقة.