Site icon IMLebanon

لبنان بين «المقاومة الاقتصادية» ومؤتمر «سيدر»

 

 

لعل زيارة الرئيس اللبناني ميشال عون إلى موسكو، في الأسبوع الماضي، شكلت فسحة له ولصهره وزير الخارجية للرد براحة أكبر على مواقف وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، إبان زيارته لبيروت، لا سيما تلك المتعلقة بـ«حزب الله»، والتي تميّزت بالوضوح والتشدد في وصف أنشطته ودوره في لبنان والمنطقة.

هذا لا يعني أن رئيس الجمهورية وتياره وحلفاءه كتموا مواقفهم وسياساتهم في حضرة الوزير الأميركي! إنما الزيارة إلى موسكو، والتي صدف أنها جاءت بعد زيارة بومبيو، حملت أبعاداً ودلالات مقلقة على صعيدي السياسة الداخلية والخارجية اللبنانية، لن تخفف من وطأتها مواقف الجهات التي اعتبرتها عادية وشخصية؛ لأن الوفد المرافق للرئيس اقتصر على صهره وابنته. ويمكن اختصار هذه الأبعاد بعنوانين أو ثلاثة، تكللها «الشطارة اللبنانية» الموصوفة:

– سلوك قد يؤدي لخروج لبنان من مظلة المجتمع الدولي ليلتحق بالمظلة الروسية.

– استكمال دائرة سيطرة «حزب الله» على البلاد، جراء حديث الرئيس عن «مقاومة اقتصادية» لتأتي كقيمة مضافة على المقاومة السياسية والعسكرية لمحور الممانعة مجتمعاً.

– تحول الخطاب المسيحي اللبناني إلى خطاب يطالب بالحماية، بما يجعل من مسيحييه أقلية تميل إلى ما يسمى حلف الأقليات.

هذه العناوين تؤشر إلى أن لبنان الرسمي بات يتجه نحو موسكو سياسياً واقتصادياً، فيعدّل من مواقفه السياسية وفقاً لما تمليه عليه، على الرغم من غياب أي مؤشرات من الجانب الروسي تقابل الهرولة اللبنانية.

لم يحمل البيان المشترك مفاجآت إلا لجهة كسره موقفين للحكم في لبنان: الأول جاء عبر استبدال تعبير «النازحين» الذي تستخدمه السلطات اللبنانية بتعبير «اللاجئين السوريين في لبنان»، والثاني عبر لجم موقف الرئيس عون وحلفائه المستعجل عودتهم إلى بلادهم. فالبيان أكد أن هذه العودة تبقى رهن تهيئة الظروف المؤاتية في سوريا، من خلال حل مسائل كثيرة، أبرزها إعادة الإعمار. يدرك الجميع أن معظم هذه المسائل خارجة عن إرادة لبنان، وحتى عن إرادة روسيا، التي إذا كان بمقدورها الضغط سياسياً على النظام، فهي تبقى عاجزة أمام مهمة إعادة الإعمار؛ لأن المجتمع الدولي ربط تمويل هذه العملية بالتوصل إلى حل سياسي للأزمة السورية، يوافق عليه ويكون تحت شرعية جنيف، والقرار الأممي رقم 2254.

واستكمالاً للدخول تحت مظلة موسكو، تبنى لبنان في خلال الزيارة وجهة النظر الروسية – الإيرانية – الأسدية، من الأزمة السورية، وذلك عبر انحيازه إلى مؤتمر آستانة، مع طرح الوزير باسيل ونظيره الروسي فكرة انضمام لبنان إليه بصفة مراقب.

إلى هذا، شدد الرئيس والوفد المرافق له على تشجيع الاستثمارات الروسية في لبنان، في استكمال للتمدد الروسي في البلاد، والذي بدت ملامحه تظهر عبر تلزيم تأهيل منشآت النفط في شمال لبنان إلى شركة روسية، إضافة إلى الآفاق التي سوف تتيحها عمليات تلزيم التنقيب عن الغاز في المياه اللبنانية.

وعلى الرغم من أن الرئيس عون لم يطرح علناً مع الجانب الروسي مسألة تسليح الجيش اللبناني، ليكتمل التماهي السياسي والاقتصادي بالشق العسكري والأمني، فإن ذلك لا يخرج عن إطار «التذاكي اللبناني»، الذي يعتقد بقدرته على الفصل بين التوجه السياسي للحكم اللبناني والمساعدات العسكرية التي تقدم إلى البلد، لا سيما الأميركية منها، ما يؤكد للمرة الألف أن الحكم كما غالبية اللبنانيين، إما أنهم لا يفهمون الرسائل التي توجه إليهم، وإما أنهم يفهمون ولكن يتغاضون عنها، متوغلين في حالة النكران القديمة – الجديدة.

ولا بد من التذكير، في هذا السياق، بأن قائد الجيش اللبناني سيزور قريباً الولايات المتحدة، كما أن وفوداً لبنانية ستتوجه إلى واشنطن للمشاركة في فعاليات البنك الدولي، ومعلوم أن سياسة هذا الأخير أميركية بامتياز!

أما حديث الرئيس اللبناني من موسكو عن «المقاومة الاقتصادية»، فما هو إلا خطوة جديدة من خطوات رضوخ الدولة اللبنانية لمشروع «حزب الله». فبعد أن وضعت صفقتا التسوية الرئاسية والحكومية السلطتين التنفيذية والتشريعية بيد الحزب، يؤشر هذا التعبير إلى وضع العجلة الاقتصادية أيضاً تحت سيطرته وسيطرة راعيته إيران. وننتظر ما ستتفتق عنه الشطارة اللبنانية للتوفيق بين «المقاومة الاقتصادية» ومخرجات مؤتمر «سيدر» التي يبني عليها لبنان لانتشاله من الانهيار الكامل.

بالنسبة إلى شكر الرئيس عون لبوتين لكل الجهود التي يبذلها لحماية «مسيحيي المشرق»، فهو من جهة يشرع محاولات موسكو استعادة دور روسيا القيصرية في حماية المسيحيين في المشرق، والتي دخلت الحرب السورية من بوابته، ومن جهة أخرى يغيّب مفهوم المواطنة الذي يرفض التمييز بين المواطنين، ويشرع مقولة إن المسيحيين أقلية في بلادهم، وهم ليسوا كذلك؛ لأنهم أصيلون في المنطقة وليسوا طارئين عليها.

وفي هذا السياق، يجدر سؤال موسكو والرئيس عون الداعمين لنظام بشار الأسد: أين كانت الأولى عندما فتكت صواريخ النظام السوري باللبنانيين، مسيحيين ومسلمين؟ وكيف استطاع الرئيس عون نسيان هذا الأمر؟ عله يعطينا وصفته لننسى أيضاً!

لن ندخل في استشراف النتائج المتأتية من انتقال لبنان إلى محور روسيا – إيران – سوريا، وتداعياته على السياسة والاقتصاد والثقافة، إنما نستذكر من التاريخ بعض العبر التي يجب ألا تغيب عنا.

إن التجارب العربية مع الاتحاد السوفياتي، لا سيما في مصر والعراق وسوريا، لم تبرح الذاكرة الجماعية للمواطن العربي؛ خصوصاً لجهة ما حصدته هذه الدول جراء التقارب مع السوفيات، من استبداد سياسي، وانكماش اقتصادي، وتراجع اجتماعي وتربوي وثقافي.

ولعل التدخل الروسي الأخير في المنطقة عبر الأزمة السورية، أكبر شاهد على فشل السياسة الروسية، إذ إن نظرة إلى المحصلة النهائية في سوريا وبغض النظر عن الدمار شبه الكامل الذي تعرضت له محافظات برمتها، تؤكد أن قيمة فاعلية هذا التدخل الروسي هي صفر مثلث:

– صفر نتيجة لتصدع الكيان السوري، وتوزع الأرض السورية على أكثر من قوة أجنبية.

– صفر في التوصل إلى حل سياسي مقبول، يسمح بعودة النازحين وإعادة إعمار ما تهدم.

– صفر ثالث جراء انعدام وجود أي رؤية مستقبلية لمصير هذا البلد المتروك للاعبين الروسي والإيراني أولاً، وللأطراف الإقليمية الأخرى ثانياً، وعلى رأسها إسرائيل وتركيا.

لماذا يصر لبنان على الدخول في مواجهة مع التوجه الدولي، ومع واشنطن تحديداً، حسبما تؤشر إليه حصيلة زيارة موسكو، وهو يعاني ما يعانيه من أزمة مالية واقتصادية خانقة، إضافة إلى أزمات اجتماعية وفكرية لا تعد ولا تحصى؟

في الواقع، ما خرجت به زيارة موسكو، هو نتيجة طبيعية لمسار طويل هدف إلى وضع لبنان تحت سيطرة «حزب الله» ومن يمثله، من محطاته الرئيسة: اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تلاه من اغتيالات، وتعطيل البرلمان وانتخابات الرئاسة التي جاءت أخيراً برئيس حليف لـ«حزب الله»، وإقرار قانون انتخاب على قياس هذا الأخير منحه أكثرية نيابية. واكتملت الحلقة بحكومة تعكس السلطة التشريعية، ولعل بعض أطرافها يمتعض ويقول لا، إنما يسري على لائه قول: «على من تقرأ مزاميرك يا داود».