يقف لبنان على عتبة الانهيار، وقد ينزلق إلى فوضى شاملة. لن يكون في وسع أحد أن يعرف إلى أين تصل وما إذا كانت ستعيده إلى أعوام الجنون والحرب الأهلية العبثية التي سبق أن انخرطت فيها «القبائل اللبنانية» مدة 17 عامًا.
سلطات الدولة معطّلة بالكامل، وهيبة القانون تتلاشى، وهوة الانقسامات السياسية والحزبية تتعمّق، الفراغ في رئاسة الجهورية يتراكم، ولقد انقضى 462 يومًا على البلد من دون رئيس، والسلطة التشريعية معطلة، لأنها باتت بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان هيئة انتخابية وظيفتها انتخاب رئيس، لكن لا يمكن انتخاب رئيس في ظل إصرار قوى 8 آذار على تعطيل نصاب جلسات مجلس النواب، ما لم يتم فرض النائب ميشال عون رئيسًا سلفًا قبل الذهاب إلى الجلسة، والمرشح التوافقي مرفوض، لأن على قوى 14 آذار أن تتلقى القصف العوني وتعتبره وفاقيًا!
وماذا يبقى؟ تبقى حكومة الرئيس تمام سلام التي جاءت أصلاً لمهمة محددة، وهي انتخاب رئيس جديد، مما يجعلها مستقيلة بحكم الدستور، ولكنها باتت أشبه بطوق النجاة الوحيد الذي تتعلق به الدولة والشرعية، لأن سقوطها سيفتح باب الفوضى العارمة، ويدخل البلاد في أتون من الصراعات المعطوفة طبعًا على الحروب الإقليمية.
منذ تشكيل هذه الحكومة واجهت مهمة مستحيلة جعلتها أشبه برجل كُتّفت يداه وأُلقي في بحر هائج، وليس عليه أن يغرق، بمعنى أنها مُنعت من العمل وفُرض عليها طوق من التعطيل والجمود، على خلفية نظرية الإجماع المدمرة، أي ضرورة التوافق في اتخاذ القرارات، وهذا أمر شبه مستحيل بين قوى سياسية متصارعة حتى العظم.
ولأن الحكومة تتولى صلاحيات رئيس الجمهورية ريثما يتم انتخابه، فقد بات كل من وزرائها الـ24 يعتبر نفسه صاحب فخامة تضاف إلى معاليه، لأنه يمثل صلاحية الرئيس في غيابه الذي طال وسيطول أكثر على ما يبدو، وهكذا واجه سلام منذ اللحظة الأولى تقريبًا حكاية الاستحالة التي تتمثل بالقول: «مقسوم لا تأكل وصحيح لا تقسم وكلّ واشبع»!
ليس التعطيل الذي يُفرض على الدولة اللبنانية فرضًا وليد اليوم، ولم يبدأ مع حكومة سلام؛ فهو مفروض منذ أن انقسم البلد إلى فريقين؛ 8 آذار و14 آذار، لا بل قبل ذلك بكثير، أي منذ أيام الإدارة السورية وما بعدها، عندما نشب الجدال فيما إذا كان على لبنان الخارج من الحرب الأهلية أن يطبق نموذج هانوي أو نموذج هونغ كونغ.
أعود إلى هذا التاريخ متعمدًا لتوضيح التراكم الكارثي للتقصير والفساد والصفقات والسمسرات والخوات والسرقات في ملفات الخدمات العامة، من الكهرباء إلى الماء إلى الهاتف إلى الخدمات الطبية إلى تراجع مستوى المعيشة وارتفاع نسبة البطالة والعوز.
بدأ لبنان ينزلق رويدًا رويدًا إلى منحدر الدولة الفاشلة، وكان الغضب يتراكم في صدور اللبنانيين الذين تحاصرهم الأزمات الخانقة، التي ستقع دفعة واحدة على كاهل حكومة تمام سلام المعطّلة، التي سترث كل الملفات المتفجرة دفعة واحدة، وهكذا جاءت مشكلة النفايات التي تتراكم في المدن والقرى والأحياء لتفجّر المظاهرات والاعتصامات.
الذين تنادوا إلى التظاهر من المجتمع المدني تحت شعار «طلعت ريحتكم»، والذين لحقوهم بشعار «بدنا نحاسب»، استقطبوا مجموعات من المواطنين الذين ضاقت بهم الأمور، وخصوصًا مع تراكم الزبالة عند أبواب منازلهم، ومع الانقطاع المتواصل للتيار الكهربائي في طقس لاهب، ومع تفاقم الأخبار عن الفساد والسرقات، كانت بداية التحركات الشعبية عفوية ونظيفة ومحقة ومفهومة، لكن سرعان ما دخلت السياسة والحسابات السياسية على الخط، عندما اندفعت طوابير وعناصر مدسوسة وأصرّت على خلق صدام عنيف مع رجال قوى الأمن تكرر في الأيام القليلة الماضية.
بدأت الشعارات أولاً تطالب بمعالجة أزمة النفايات، التي قصّرت فيها الحكومة واستمهلت وارتجلت فعلاً، ثم تطورت الأمور إلى المطالبة بإسقاط النظام وبإسقاط الحكومة والبرلمان وبمحاسبة الطاقم السياسي الفاسد، ثم ظهرت ملامح تنذر بأن هناك من يستغلّ المظاهرات المشروعة والمحقة لخلق فوضى شاملة.
كان من المثير أنه لم تبرز قيادات معروفة في حركات التظاهر قادرة على منع الطوابير المدسوسة من استغلال التحرك وتوظيفه في إطار الحسابات السياسية، ولم تعلن برامج محددة أو روزنامة مطالب، اللهم إلا صراخ المتظاهرين أمام عدسات التلفزيون وهم يطالبون بإسقاط الطاقم السياسي الفاسد، وهو فاسد طبعًا، لكن دون تحديد روزنامة لليوم الثاني!
والدليل أنه عندما طلب سلام أن يلتقي المتظاهرين على خلفية قوله إن «التظاهر السلمي حق دستوري، وإن القوى السياسية تتحمل مسؤولية الشلل الحاصل في لبنان، وإن صرخة الألم التي سمعناها ليست مفتعلة، بل إنها تراكم لتعثّر مزمن نعيشه.. وإن هناك بالفعل نفايات سياسية في البلد»، رفض المتظاهرون أن يلتقوه، أو أنه لم يكن بينهم قيادي أو أكثر يملك حق تمثيلهم في اللقاء!
لهذا لم يكن غريبًا أن ترتفع أصوات تقول إن غضب الشعوب وثورة المجتمعات يمكن أن يقودا إلى عكس المرتجى، أو بالأحرى إلى الفوضى القاتلة، إن لم تكن هناك قيادة واضحة ومعروفة وذات صدقية، وأن تكون لديها خطة تحرك مقنعة ومعلنة وواضحة الأهداف، وكذلك روزنامة تنفيذية للمطالب وتصوّر دقيق للبدائل التي يفترض أن تملأ الفراغ بعد إسقاط الفساد.
منذ اليوم الثاني لخروج المظاهرات تحت شعار «طلعت ريحتكم»، بدأ الحديث عن المندسين الذي أصروا على الصدام مع قوى الأمن أمام السرايا الحكومية، رغم انسحاب المتظاهرين العفويين إلى ساحة الشهداء، وبدا وكأن الذين يفتعلون الصدام يطبقون خطة واضحة ورابحة بالنسبة إلى قياداتهم في الحالين.
يعني ذلك أنهم إذا تمكنوا من إحداث فوضى وحصل تصعيد أمني كبير، فإن ذلك سيدفع بالوضع اللبناني خطوة إضافية على طريق إسقاط النظام، وصولاً إلى مؤتمر لتعديل الدستور، وإن لم يحصل هذا فسيبدو على الأقل أن الحكومة تمارس سياسة قمعية ضد المجتمع المدني الذي يطالب بحقوق يعترف بها صراحة رئيس الحكومة نفسه.
والخلاصة أن لبنان عالق في فراغين؛ فراغ الدولة وسلطاتها المشلولة وفراغ الشارع الذي تتحكم فيه حسابات سياسية تستغل غضب الناس، ولبنان بلد لا يمكن أن تقوم فيه ثورة شعب، لأنه منقسم إلى الصميم، وفيه شعوب وقبائل متناحرة طالما عطفت حروبها المجنونة على صراعات الإقليم السياسية والمذهبية.. وها هو غارق في بحرين؛ زبالة المنازل ونفايات السياسة!