المشهد «الجهادي» في لبنان ما زال قيد التشكّل، فهو إلى الآن ليس له بنية واضحة المعالم، وجهود القائمين عليه مشتّتة بين المشروع الخاص والتبعية لقادة «الجهاد» في القلمون السوري. واشتعال الأحداث تارةً في عرسال وأخرى في طرابلس ثم انطفاؤها بسرعة نسبية، قد تكون مجرد بروفات لسيناريوهات مستقبلية يجري الإعداد لها في مستويات أعلى من قيادات التكفيريين يبدو معها اللاعبون الحاليون مجرد كومبارس. لكنه بالمقابل يدل على انسداد الأفق، حتى الآن، أمام ذوي المشروع الخاص، وأن «المشهد الجهادي اللبناني» يراد له أن يدور في فلك «الجهاد» السوري.
وكأي ساحة أخرى، تأثرت الساحة اللبنانية بتداعيات «الفتنة الجهادية» بين «جبهة النصرة» من جهة و«الدولة الإسلامية» (داعش) من جهة ثانية. وقد افتتح أبو محمد الجولاني أواخر العام الماضي، بازار التنافس حول لبنان عندما كشف في مقابلته مع قناة «الجزيرة» عن دخول «النصرة» إلى لبنان، وذلك بعد حوالي ثمانية أشهر من اندلاع الخلاف بينه وبين البغدادي. ورغم أن تصريح الجولاني فُهم حينها على أنه يهدف إلى الترهيب الإعلامي ولا يستند إلى وقائع ميدانية، إلا ان مجرد التصريح علانية بوجود فرع لـ«النصرة» في لبنان كان كافياً لقرع جرس الانذار بأن لبنان بات على مشارف مرحلة جديدة. وكان مستغرباً أن تصدر في أعقاب تصريح الجولاني، عدة بيانات عن «جبهة النصرة في لبنان» بدءاً بالبيان رقم (1) الذي صدر بالاشتراك مع «سرايا مروان حديد» (إحدى السرايا التابعة لكتائب عبد الله عزام) بعد أسبوع فقط من مقابلة الجولاني وتبنى إطلاق صواريخ على منطقة الهرمل، مروراً بسلسلة «غزوات قسماً لنثأرنّ» التي كان من بينها البيان رقم (3) الذي تبنى تفجير حارة حريك في 21 كانون الثاني الماضي، وآخرها في 22 شباط الذي تبنى عملية انتحارية في الهرمل، لتختفي بعد ذلك بيانات هذا الفرع من دون أي تفسير من قبل القائمين عليه. غير أن إطلاق الجيش السوري معركة تحرير منطقة القلمون ونجاحه في استعادة السيطرة على أغلب مدن المنطقة، قد يكونان دفعا «جبهة النصرة» إلى إعادة هيكلة بنيتها والاستغناء عن فرع مستقل لها في لبنان وإلحاقه مباشرة بقيادتها في جرود القلمون ممثلة بأبي مالك التلّي (جمال زينية).
في المقابل، لم يعلن تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) عن تمدده إلى الأراضي اللبنانية كما فعلت منافسته «النصرة»، لكنه حرص بين حين وآخر على الإعلان عن تبني عمليات قصف بصواريخ غراد استهدفت ما دأب على تسميته بـ«معاقل حزب الله»، كان أهمها التي حدثت في 28 آذار الماضي، لأن من قام بها هو أحمد طه الملقب بـ «أبو حسن الفلسطيني» حيث كانت المرة الأولى التي يُعلن فيها عن انتمائه إلى «داعش» وتسلمه منصباً قيادياً فيه، كما تبنّى انتحاريي فندق «دو روي» في بيروت في حزيران الماضي. وكان واضحاً أن تركيز «داعش» على لبنان لا يضاهي البتة تركيز «جبهة النصرة» التي خرج «أميرها» في القلمون أبو مالك التلي في تموز الماضي بتسجيل صوتي «هذا بلاغ للناس» وضع فيه معالم سياسته الجديدة تجاه «حزب الله»، مهدداً بنقل المعركة من جرود القلمون إلى الداخل اللبناني.
وعدم اهتمام «داعش» بلبنان يعود إلى أسباب، منها انشغاله منذ بداية العام الحالي بحربه في المنطقة الشرقية ضد الفصائل المسلحة وعلى رأسها «جبهة النصرة» التي ما كادت تنتهي حتى بدأ الحديث عن التحالف الدولي، وكذلك عدم امتلاكه أعداداً كبيرة من المقاتلين في المنطقة تمكّنه من التأثير في مجريات الأحداث أو تعديل موازين القوى، حيث كان يقدر عدد مقاتلي «داعش» في القلمون بحوالي 200 مقاتل فقط. وقلة العدد لم تمنعه من التركيز على لبنان وحسب بل اضطرته إلى التعايش مع «جبهة النصرة في القلمون» واستثنائها من القتال، خصوصاً بعد أن أصدر التلّي بياناً يعلن فيه رفضه القتال واستعداده لحماية مقار «داعش» في المنطقة.
إلا ان هذا التعايش المفروض بحكم الأمر الواقع، لا يعني خلوّ العلاقة بين الطرفين من التوتر والمشاحنات وضعف الثقة. وبرز ذلك جلياً عندما أعلن «أبو معن السوري» (إعلامي النصرة في القلمون) عن وجود عناصر من «داعش» يكفّرون أبا مالك الشامي ويطالبون بقتله، وكذلك إعلانه أن سجى الدليمي التي حررتها «النصرة» في صفقة الراهبات، هي زوجة زعيم «داعش» أبي بكر البغدادي. وعندما أعلن «لواء فجر الاسلام» في تموز الماضي بيعته للبغدادي اشتبك عناصر من «جبهة النصرة» معه وسقط قتلى وجرحى من الطرفين، وغير ذلك من التفاصيل التي تشي بوجود جمر متقد تحت رماد التعايش.
وعزز من ذلك أن بعض التنظيمات اللبنانية المتشددة، مثل «كتائب عبد الله عزام» أو»جند الشام» التي قاتلت في منطقة الحصن بريف حمص، ابدت ميلها إلى جانب «جبهة النصرة» في الخلاف بينها وبين «الدولة الإسلامية» رغم أنها لم تبايع وآثرت البقاء مستقلة. وهذا شكل سبباً آخر من الأسباب العديدة التي منعت «داعش» من التركيز على الموضوع اللبناني لعدم وجود شريك من الداخل يمكن الاعتماد عليه.
في هذه الأثناء، وعلى خلفية العلاقة المشوبة بكثير من التناقضات، وقعت أحداث عرسال في 2 آب، أي بعد شهر تماماً من التسجيل الصوتي لأبي مالك الشامي وبعد حوالي أسبوعين من مبايعة «فجر الاسلام» لـ«داعش»، وكان السبب المعلن لاندلاع هذه الاشتباكات هو الرد على قيام الجيش اللبناني باعتقال قائد «فجر الاسلام» عماد جمعة الذي طرح اسمه على أنه تولى منصب «أمير داعش في القلمون» من دون وجود ما يؤكد ذلك حتى الآن. واتسمت أحداث عرسال بالتداخل بين أدوار كل من «داعش» و«فجر الإسلام» و«النصرة» وعدم إمكانية التمييز بين حدود كل منهما. لكنها كشفت عن نقطة في غاية الأهمية هي أن مرجعية القيادة للمسلحين داخل عرسال تعود إلى «جبهة النصرة في القلمون»، وتبين ذلك بعد استلام «النصرة» للجنود المخطوفين الذين كانوا في ضيافة الشيخ مصطفى الحجيري. أما بالنسبة لـ«داعش» فقد ساد الغموض حول دورها وقيادتها، خصوصاً أن قادة «فجر الاسلام» حاولوا الادعاء أنهم يمثلون قيادة «داعش» في المنطقة، وأصدروا عدة بيانات باسم «الدولة الاسلامية»، وهو ما دفع الأخير إلى إصدار قرار بفصل العديد من قيادات وعناصر «فجر الإسلام»، الأمر الذي اشار إلى رغبته في التمايز عنهم وعدم رضاه عن أسلوبهم في إدارة الملفات، ولا سيما ملف التفاوض حول الجنود المخطوفين.
والغريب أن الأمر ذاته كاد يتكرر في أحداث طرابلس الأخيرة، حيث أدّى اعتقال أحد المحسوبين على «داعش» المدعو أحمد ميقاتي، إلى تفجير اشتباكات واسعة بين الجيش اللبناني من جهة وبين بعض الجماعات المسلحة، برز من بينها «مجموعة شادي المولوي» و«مجموعة أسامة منصور» من جهة ثانية، والمعروف عن كلتا المجموعتين ارتباطهما بـ«جبهة النصرة»، إلا ان ما ميّز أحداث طرابلس عن أحداث عرسال هو عدم مشاركة أي مجموعة مسلحة تابعة لـ«داعش» في الاشتباكات، رغم أن المعتقل محسوب على التنظيم المتشدد. بل لم يصدر عن «داعش» أي رد فعل تجاه هذه الاشتباكات، حتى أنه لم يهدد بالانتقام من الجنود اللبنانيين المخطوفين لديه، كما سارعت وفعلت «جبهة النصرة».
وإذا كانت أحداث عرسال كشفت عن العلاقة القوية بين «جبهة النصرة» وبعض وجهاء المدينة والمسلحين المنتشرين فيها، فإن أحداث طرابلس بينت بشكل جلي أن «جبهة النصرة» تنفرد بالتأثير في المجموعات المسلحة التي تورطت في الاشتباك مع الجيش اللبناني وتملك وحدها قدرة توجيههم. لكن بعض ردود الأفعال، سواء من قبل قيادات في «جبهة النصرة» أو قيادة «كتائب عبد الله عزام» أو بعض منظري «الجهاد»، تشير إلى وجود مخاوف لدى هؤلاء من انجرار «الشباب المجاهد» في طرابلس إلى معركة لم يحن أوانها، الأمر الذي قد يعني أن إطلاق الرصاصة الأولى قد لا يكون نتيجة أوامر مباشرة من قيادة «النصرة في القلمون» وأن هناك تياراً ضمن المجموعات التابعة لها يجتهد ويتخذ قرارات مستقلة، وإن كان في النهاية يضطر إلى الرضوخ للأوامر التي تأتي من جرود القلمون بالتوقف عن إطلاق النار. لكن يبقى السؤال: هل ستتمكن «النصرة» من الاستمرار في ضبط هذا التيار والتأثير فيه؟ أم أن المشهد «الجهادي» في لبنان مقبل على تطور جديد يكون عنوانه الخروج من دائرة تأثير «الجهاد السوري» فيه؟