لا خوف على لبنان. إنه في عين العاصفة، وسبل النجاة منها متوفرة. مرَّت «عاصفة الكلام» الذي أثاره كلام رئيس الحكومة تمام سلام في مؤتمر القمة العربية، بهدوء، مخلِّفة تفاهماً عميقاً، حول ضرورة إبقاء الحكومة على حالها، ومعالجة الكلام والكلام المضاد، بكلام مفاده، فليبق كل شيء على حاله، وكل فريق على مواقفه، من دون اللجوء إلى ما يشبه الإقليم. ففي الإقليم، مات الكلام، كل الكلام، ولم يبقَ غير لغة السلاح، بأنواعه المدمرة والفتاكة والقاتلة.
لا خوف على لبنان. هو صاحب تجربة فذة وفريدة في العالم. هذا الكلام ليس من باب السخرية، بل هو من صميم الجدّية. لقد أثبت لبنان، أنه قادر على ابتداع الصيغ التي تمنع تهديم الهيكل. نظامه الطائفي المتداعي الفاسد، هو أفضل نظام في المنطقة. بالإمكان القول، بجدارة علمية وبدقة الاستنتاج من التجارب المتتابعة، أن نظامه قادر على إدارة الاختلاف، بل قادر على إدارة الانقسام العمودي بطريقة سلمية. الحفاظ على الانقسام أفضل من الحسم في اتجاه واحد، يضيع فيه الكيان ويغرق في العنف والاقتتال.
مَرَّ على لبنان، منذ استشهاد الرئيس رفيق الحريري، أحداث زلزالية، هزت القشرة فقط، ولم تصل إلى الأعماق. ظلت القوى السياسية قادرة على إيجاد المخارج اللفظية، لحفظ الوعاء المؤهل لاستيعاب روافد التناقضات. المحكمة، قسَّمت اللبنانيين المنقسمين أساساً حول سلاح المقاومة، ومع ذلك، تعايش النقيضان معاً في حكومات، لم تستثنِ أحداً. حتى حكومة الرئيس نجيب ميقاتي، التي تَمَنَّع «المستقبل» عن المشاركة فيها، سهرت على رعاية مصالح وشخصيات «14 آذار» وحصَّنتها بالرعاية والاحتضان والاطمئنان.
عدوان تموز الإسرائيلي على لبنان، والذي جاء في ذروة انقسام اللبنانيين حول عدد من القضايا الكبرى، وأبرزها، قضية سلاح المقاومة، لم يستطع أن يقود اللبنانيين إلى الخنادق، أو إلى تبني رهانات خاطئة، تقود الكيان إلى حتفه. كان التناقض في كيفية التعاطي مع العدوان، يصل إلى حدود الاتهام بالخيانة. ومع ذلك، فقد صيغ الاتفاق الذي أنهى الحرب، بعبقرية التسوية. وهي تسوية لا تجاري طموح ورهانات من يريد التخلص من سلاح المقاومة، ولا توازي تضحيات المقاومة التي حافظت على قوة الردع والتوازن مع العدو الإسرائيلي.
الربيع العربي، جاء في لحظة انقسام لبنانية مزمنة ومتفاعلة. عندما بلغ الربيع أبواب درعا، ثم وصل إلى ياسمين دمشق، ثم تطور إلى عنف قصف عنق الربيع، غنى اللبنانيون مواويلهم الانقسامية، من دون أن يؤدي ذلك إلى فتنة السلاح. النأي بالنفس، عصم الحكومة والدولة. قالت انها على حياد. ما يجري في سوريا، لا نسمعه ولا نشعر به ولا نفتي فيه. فما في سوريا، شأن سوري بحت. وقع المختلفون على كل شيء، ثم انصرف الفريقان المتنازعان إلى تأبيد ومساعدة كل منهما لحلفائه في سوريا. تحت مظلة النأي بالنفس، انتقل «حزب الله» من الدعم المعنوي والإعلامي إلى الدعم اللوجستي والقتالي والميداني، لم يردعه النأي بالنفس، ولم يقنعه أطناب 14 آذار في ضرورة الانسحاب من سوريا، متهماً إياه، بالانغماس في تأبيد المعارضة المسلحة السورية.
تناوب الفريقان على التدخل هناك، من دون أن تنتقل عدوى القتال إلى لبنان، كان الجميع خائفاً على هشاشة الجسم اللبناني وحساسيته الفائقة إزاء كل ما يجري في المنطقة. ومع ذلك، وفيما كان الفرقاء يتقاتلون في العراق وسوريا و… وفيما كان الفريقان منقسمين تأييداً ومساعدة، تعايشا في ظل حكومة واحدة، مع مناوشات محدودة، ظلت كلامية. وكلام ضد كلام، يمحوه صمت أو كلام آخر.
لم تبرأ الساحة اللبنانية من مناوشات أمنية موضعية، ممسوكة ومحسوبة. طرابلس كانت نموذجاً لصندوق بريد إقليمي ووسيلة جس نبض لمعرفة مستوى احتمال الضغوط والإشغال للتشويش على الآخر… مثلها، كانت تجربة أحمد الأسير في صيدا، كظاهرة مشاغبة على حزب المقاومة، مع غض طرف من قبل فريق أهل السنة. ومع ذلك، فقد انتهت أمراض طرابلس الأمنية، بعدما تبلغ الطرف المقاطع لتشكيل حكومة يتمثل فيها «حزب السلاح»، بضرورة الخروج من الفراغ، كملاقاة الفراغ الرئاسي، للاتفاق على حكومة «المصلحة الوطنية» بمشاركة الجميع.
الحرب مستعرة في الإقليم. اللبنانيون منغمسون مذهبياً وموزعون في ولاءاتهم لخنادق القتال، من دون أي يرف لهم جفن أو بالأحرى، من دون وخزة ضمير. الحرب في الإقليم تخاض بكل أنواع الأسلحة المدمرة والفتاكة والقاتلة والكارثية، فيما اللبنانيون، منخرطون فيها، داخل الفضاء اللبناني، بالكلام فقط. كلام ضد كلام.
ولما حان الزمن الحوثي في اليمن، تبدّت اللهجة الانتصارية لدى فريق المقاومة، ولما جاء رد «عاصفة الحزم» على التمدد الحوثي، انتقلت عدوى اللغة الانتصارية إلى فريق 14 آذار. وتبين أن هذا «الفريق الذي كان قد نعى العروبة مراراً وشنَّع عليها، واعتبرها جثة عفنة، تنتمي إلى بقايا «البعث» والديكتاتوريات العسكرية، عاد والتزم «القومية العربية الرسمية» بحلتها السعودية، صاحبة السوابق في إقامة الأحلاف الإسلامية ودعم أعداء العروبة من المحيط إلى الخليج. وقد جاء هذا الاصطفاف، مع العروبة اللفظية (وليست عروبة وليد جنبلاط التي يسميها حضارية، فأين لدينا من الحضارة راهنا؟) في مواجهة الشعوبية الفارسية الإيرانية الصفوية الشيعية الرسمية والشعبية معاً.
حدث كل ذلك، ولم يصاحب ذلك ضربة كف. كلام ضد كلام. توافق على البقاء فوق منصة الكلام، ودعم الرغبة أو فقدان القدرة أو حكمة السياسة، على نقل الكلام إلى سوية الفعل. وهذه فضيلة لبنانية فذة.
لقد تجرأت القيادات اللبنانية عندما امتنعت عن ترجمة أقوالها ومواقفها إلى فعل سياسي ملزم لكل اللبنانيين، أو إلى قرار سياسي، يعاقب من يخالف الأكثرية. هذه القيادات، التي تمنعت عن إنتاج دولة، فازت في إقامة سلطة الحد الأدنى، وبهذه السلطة (بحدودها الدنيا) بذلت الجهود، لنسج حوارات باهتة وحلول موقتة، أنقذت لبنان من وحدانية القرار الملزم، الذي يفجر البلد. وحال اللبنانيين اليوم، هي كالتالي: من أراد أن يكون، بحكم ولائه الطائفي أو المذهبي، مع السعودية ضد الحوثيين، أو مع المعارضة المسلحة ضد النظام في سوريا، أو سلطة البحرين ضد المعارضة الشيعية أو… فليكن، بشرط الامتناع عن استعمال القوة في لبنان، لفرض هذا الخيار، على فريق لبناني آخر، يرى أن من حقه، أن يكون مع النظام في سوريا ضد المعارضة، وأن يشاركه في الدعم والقتال هناك، وأن يكون مع العبادي و «الحشد الشعبي» ضد «داعش» وبيئتها في العراق، ومع المعارضة البحرينية ضد الملك، ومع الحوثيين ضد السعودية وحلفائها. بشرط عدم نقل المعركة العسكرية إلى الداخل اللبناني. ولقد تم ذلك بالفعل. وبسبب ذلك، ينعم لبنان راهناً، بمناخ معتدل، تتم فيه جلسات مجلس الوزراء والتعيينات والقرارات، بالتوافق.
هذا هو لبنان المختلف، إيجابياً هذه المرة، برغم العيوب الفاضحة التي تعتور دولته ونظامه ومجتمعه، بأنه لا يشبه الأنظمة ذات الأمرة الواحدة، أكان ذلك في أنظمة الديكتاتوريات الجمهورية أم في أنظمة الممالك العربية. هناك، وحدة السلطة ووحدة القرار وإلزام المجتمع به، قسّم المجتمع وقصم ظهر السلطة. من كان يجرؤ على إبداء وجهة نظر في سياسة اختطها النظام في سوريا أو مصر أو ليبيا أو السعودية أو… في كل البلدان العربية؟ لا أحد. لذلك، انفجرت بالعنف، وقد تزول كيانات ومجتمعات وشعوب بهذا العنف.
واقع الحال في لبنان، أمنياً، يدل على حكمة القيادات التي أسست قراراتها على الخوف البنَّاء. الخوف من الفتنة. لذلك أقدمت على الحوار، الذي كان مستحيلاً، بسبب الفراق الكبير بين «المستقبل» و «حزب الله». يقال: هذا حوار ما دون الحد الأدنى. فليكن، لأن لا بديل سواه. قد لا يحل مشكلة قائمة أو قضية عالقة، ولكنه، قد يمنع مشكلة تجر البلاد إلى الفتنة. وعليه، فإن صورة الكيانات الجغرافية ـ الطائفية، في لبنان، تبدو صورة بديعة. الكيان المسيحي، المتنازع عليه كلامياً بين «الجنرال» و «الحكيم»، يعيش حالة سياحية ممتازة. الكيان الدرزي آمن ومطمئن، ولا يخشى تقلَّبات زعيمه جنبلاط، لأنها تأخذ بعين الاعتبار، سلامة «المجتمع الدرزي»، المؤسس على سلام «المستقبل» «حزب الله»، بحدوده الحوارية المعقولة. المجتمع السني، وبسبب انتسابه إلى السعودية، فقد نقى صفوفه من عناصر التطرف، وبات ينشد السلم الأهلي، ويبتعد عما كان ينسب إليه، من دعم لبعض العناصر المتطرفة في الداخل. أما المجتمع الشيعي، فهو يعيش حالة تصالح مع ذاته وحالة التغاضي عن دوره في سلسلة جبال لبنان الشرقية، لرد العدوان المرتقب من «النصرة» و «داعش» على لبنان.
فضيلة لبنان الكبرى، أنه تمرَّس في إدارة الانقسام وفي إيجاد التسويات، على قاعدة تقاسم السياسات الإقليمية واعتبارها، شأناً من طبيعة المجتمع اللبناني، وإن لم تكن من طبيعة الدولة، التي يُفترَض القبول بها، كمرجع وإطار وحاضن ومؤسسات وقوانين وتشريعات، أن تكون هي، لا سواها، ذات السيادة، وذات المرجعية في كل القرارات.
مجتمع ما قبل الدولة، لا يمكن أن يدار بمنطق الدولة أبداً. فلا بكاء على السيادة. في مجتمع متعدد الولاءات كلبنان، والتي تتخطى ولاءات فئاته، الحدود اللبنانية، والنصوص الدستورية، والسيادة اللبنانية…
الدولة في لبنان، خادمة وغير مخدومة. الدولة تسير وفق اتجاهات فئاتها. وهي في تاريخها الحديث، لم تستطع أن ترسم سياسة خارجية تلزم جميع المكونات اللبنانية فيها. فشلت في ذلك، إبان الحقبة الناصرية. وتشلّعت، إبان الحقبة الفلسطينية، وسكتت مضطرة إبان الحقبة السورية، ثم نأت بنفسها عن حروب المشرق، تاركة الشيعة في الهلال الإيراني والسنة في القوس السني، بانتظار أن يلتقيا بهدف إكمال النصاب الشكلي لانتخاب رئيس للجمهورية.
إن الصيغة اللبنانية لا تنشئ دولة بالمعنى الحديث، ولا تحرس مؤسسات رسمية من الفساد، ولا تضبط حراكاً سياسياً أو طائفياً. إنه يحسن بهذه الصيغة أن تدير الانقسام الطبيعي، الذي هو نتاج انتماءات ما قبل المواطنة: الانتماءات المذهبية أو الطائفية أو العشائرية. الصيغة لا تصلح لكونفيدرالية، حيث تتوزع الإدارات والصلاحيات، وتتوحد السياسة الخارجية والدفاعية. هذا مستحيل في لبنان. الخلاف على الجبنة، له حل. وهو توزيعها بالتساوي أو بالتراضي أو بالإغراء. الخلاف الأساس، هو حول اتجاهات الرياح الإقليمية.
إن دولة قوية في لبنان، لا تحترم الانقسام وتلغيه، تفجر المجتمع. إن سلطة مستبدة من فريق واحد وحلفائه، تفجر البلد. وعليه، فخير ما يمكن ان ينعم به لبنان: دولة ضعيفة، نظام مصالحة وتوافق، يمتنع عن الممارسة الديموقراطية (الديموقراطية الطائفية، مسخرة) ولا يحتكم إليها، لأنه عاجز، وحريات إعلامية، لا تنحرف إلى مخاطر الشحن. أما الفساد، فهو عصب الدولة اللبنانية، الذي ينتفع منه الجميع، كونه، الوجه الأبرز في الاقتصاد اللبناني، وفي معيشة الناس.
طموحنا، أن نقتنع بأن الدولة، دفعت ثمن الحريات الطائفية، التي لا مناص منها. وهذا الثمن الباهظ، أفضل من الوقوع في حروب لبنانية لا تبقي على شيء.