IMLebanon

لبنان بين تكتيك التهدئة واستراتيجية المواجهة الإقليمية

 

تحتدّ النبرة الأميركية العالية ضد تجاوزات إيران في سوريا واليمن، لكنها نبرة شبه هادئة حالياً عندما يتعلّق الأمر بالعراق ولبنان.

ما قيل عن تشجيع أميركي للسعودية على إصلاح العلاقة مع رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري يدخل في سياق إبعاد المواجهة من لبنان في هذه المرحلة، لا يعني أنّ واشنطن ستخفّف ضغوط العقوبات والملاحقة لـ»حزب الله» خارج لبنان، اقتصادياً وسياسياً، وربما عسكرياً، في سوريا أو في اليمن.
ازدياد التلميح الى أنّ إسرائيل لن تقبل بالقواعد الإيرانية في سوريا ترافقه سيناريوهات اجتهادية بتخطيط إسرائيل لاجتياح مدمّر وسريع في لبنان لا يكتفي بمواقع «حزب الله»، وإنما يطاول بيروت. هذه النظريات التصعيدية تتضارب مع نظريات الاكتفاء بمبدأ احتواء «حزب الله» حالياً، لكنّ أحدهما لا يلغي الآخر تماماً، والمقصود بالطبع هو «الاحتواء». لا مؤشرَ هناك في الوقت الحاضر على التزامٍ أميركي لنقل الضغوط على ‘يران من سوريا واليمن الى لبنان والعراق. في العراق، الرادع الحالي هو الانتخابات المزمع إجراؤها في 12 أيار، وفي لبنان إنّ موعد الانتخابات النيابية هو 6 أيار.
زيارة وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان الى لندن ثمّ واشنطن في النصف الأول من هذا الشهر ستركّز بالتأكيد على المنافسة بين العاصمتين على طرح أسهم شركة «أرامكو» النفطية السعودية في اكتتابٍ هو الأكبر في التاريخ. وإنّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب متشوّق جداً للبحث مع وليّ العهد السعودي في السبل التي تمكّن الدول العربية الخليجية من التصدّي في شكل افضل لنشاطات إيران المزعزِعة للاستقرار وهزيمة الارهابيين والمتطرّفين، كما قال الرئيس الاميركي دونالد ترامب في اتّصاله الهاتفي مع وليّ العهد السعودي. والتحضير لهذه الزيارة لواشنطن شملت تلبية الرغبة الاميركية بطيّ صفحة التوتر في العلاقة مع لبنان، وبالذات مع سعد الحريري الذي قدّم «استقالةً» بدا مجبَراً عليها من الرياض، عاد عنها بعدما وصل عاصمته بيروت. والعلاقة بين الحريري و»حزب الله» ضمن حكومة التسوية الرئاسية أثارت حفيظة الرياض في السابق، والسؤال الآن يصبّ في خانة طريقة تلاقي العزم الاميركي ـ السعودي على «خنقٍ» تدريجيٍّ لـ»حزب الله» مع اضطرار الحريري الى التعايش معه لأسباب عدة. لذلك، فإنّ زيارة الحريري الرسمية للرياض هذا الأسبوع ليست لمجرد «ردّ اعتبار» وإنما هي زيارة مهمة في رسم معالم المرحلة المقبلة.
أحد المطّلعين على الاتّصالات السعودية مع الحريري أكّد أنّ دولة الامارات العربية لعبت دور الوساطة ومهّدت ديبلوماسيّتها للزيارة المهمة. لكنه أكّد أيضاً أنّ «التواصل كان مستمرّاً دائماً». قال إنّ الطرفين لا يريدان «علامة إستفهام» في العلاقة، بل يريدانها قائمة على التفاهم و»قاعدة التنسيق».
وأوضح هذا المطّلع أنّ رؤية الحريري معروفة وهي:
• أولاً، «ربط نزاع» مع «حزب الله» بمعنى أن لا تحالف معه ولا انجرار الى مشكلة ومواجهة.
• ثانياً، أنّ الحريري لا يريد أن تسوءَ علاقته برئيس الجمهورية ميشال عون، لكنه يريد «علاقة جيدة» مع رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع و»يريد الحفاظ على الاثنين».
• ثالثاً، يريد دعم السعودية للمؤتمرات التي يحتاجها لبنان، الاقتصادية منها، وتلك المتعلّقة باللاجئين في لبنان.
• رابعاً، إنّ الزعيم السنّي لن يرضخ لأيِّ ابتزازٍ داخلي، ولا وشاية اطراف وقيادات سنّية تهاجمه وتقول له: «كن مثلنا وإلّا نهاجمك».
• خامساً، إنّ سعد الحريري يريد علاقات ممتازة وتفاهماً كاملاً مبنيّاً على الصراحة والثقة مع السعودية.
يصرّ هذا المصدر الوثيق الاطّلاع على أن لا مشكلة للسعودية مع كل هذه النقاط. كيف ذلك عند الحديث عن مجرد «ربط نزاع» مع «حزب الله»، فيما الموقف السعودي الرسمي هو ضرورة تطويقه وعدم توفير الغطاء له؟ يأتي الجواب «أنّ معنى «ربط النزاع» هو عدم إلغاء النزاع وعدم تفعيله، بمعنى الاتّفاق على الاختلاف لأنّ الظرف الإقليمي ليس مؤاتياً لندخل في «كسر العظم» مع «حزب الله»، و العلولا فهم ذلك»، وذلك في اشارة الى أنّ المستشار في الديوان الملكي نزار العلولا الذي قام بزيارة مهمة الى لبنان أدّت الى زيارة الحريري للرياض.
الكلام إذن هو عن «تدوير الزوايا» كما قال المصدر المطّلع على الاتصالات، عكس «زمن السبهان»، في إشارة الى الموفد السعودي السابق «الذي كان مندفعاً وأكثرَ عجلةً من الاميركيين يهدّد بالسلاح الاميركي والاسرائيلي على السواء». الآن، إنّ الكلام يصبّ في خانة «الخنق والعزل والاحتواء وربط الحبل على الأعناق، وليس في خانة المواجهة». فإذا كانت هناك خطة تعزل «حزب الله» وتقصّ جوانحه، لن تكون عبر المواجهة المباشرة. وإذا أرادت السعودية والولايات المتحدة كسرَ «حزب الله» لعلّ في ذهنهم كسره في سوريا. انما الآن، لقد نقلوا المواجهة بعيداً من لبنان، يقول المصدر، «وهم يتبنّون سياسة النَفَس المتوسط» مع «حزب الله».
وليّ العهد السعودي قال في حديثه الى الصحافي المخضرم ديفيد ايغنايشس في صحيفة «واشنطن بوست» إنّ الحريري «في وضع أفضل مقارنةً بميليشيا «حزب الله» المدعومة من إيران. تحدّث عن «العلاج بالصدمة» في مواجهته شتى الامور من الفساد الى التطرف، وكان لافتاً أنّ الحريري استخدم تعبيراً مشابهاً عندما تحدّث من الرياض فيما كان رئيس الجمهورية ميشال عون يقول إنه «مخطوف ومحتجَز في العاصمة السعودية، رافضاً استقالته «المفروضة عليه».
الحريري لن ينسى ما فعله عون ويعتبره الرجلَ الذي أنقذه ـ هكذا يقول بعض معاونيه ويصرّون على أن لا مجال للفصل بينهما. ويقولون إنّ علاقة الحريري بعون مفيدة لجهة سحب عون من أحضان «حزب الله» ونحو تحييده وتحييد حزب «التيار الوطني» معه، نسبياً.
كيف يمكن التوفيق بين هذه العلاقة وبين أولويّة سمير جعجع في الاعتبارات السعودية؟ «شعرة معاوية مع عون، مع العمل نحو علاقة حليف مع جعجع»، يجيب المصدر.
لعلّ السعودية حقاً قد استبدلت سياسة الاستعجال بسياسة النسيج في علاقاتها اللبنانية. فهي تعرف أنّ القرار الأميركي إزاء إيران و»حزب الله» في عهد دونالد ترامب هو التصدّي لإيران وتطويق «حزب الله» مع إبقاء إسرائيل الـ»جوكر» Joker الذي لا يمكن رصد مكانه وظهوره.
ولعلّ «التيار الوطني الحر» الذي يقوده عون توصّل ايضاً الى الاستنتاج نفسه، وبدأ يعي ثقلَ العبء على أكتافه، ليس فقط من جانب المواقف الأميركية، وإنما ايضاً من ناحية وطأة الإجراءات التي تنوي واشنطن فرضها على رجال الأعمال ذوي أيّ صلة مع «حزب الله». لذلك تراهن السعودية ومعسكر تيار»المستقبل» الذي يقوده الرئيس الحريري عليه.
لن يكون سهلاً على الحريري السير على «الحبل المشدود» بين اصدقاء اليوم وحلفاء الأمس محلّياً، وبين «سبهانية» الطلاق الضروري القاطع مع «حزب الله» و»علولية» الصبر والتدرّج في التطويق والخناق. لعلّ السعودية أدركت أن لا منفعة لها من تحويل لبنان دولةً أُخرى، بعد اليمن وسوريا، في صفوف الانهيار، وأنّ الأفضل للبنان ولها أن يكون الحريري رئيس حكومة بدلاً من أن يكون خارج الحكومة. لذلك الاستدراك، ولعلّ عواصم أوروبية، الى جانب واشنطن توصّلت الى الاستنتاج نفسه وشجّعت الرياض.
فلبنان سواءٌ كان جزءاً صغيراً أو كبيراً هو ضمن المعادلة الإقليمية التي ما زالت قيد الفرز. إيران في طليعتها سورياً ويمنياً. فليس أمراً عابراً أن تدين برلين الى جانب لندن وباريس وواشنطن، طهران بسبب انتهاكاتها حظر السلاح المفروض من الأمم المتحدة على اليمن. هذا تطوّر جديد في المسألة اليمنية وهو يأتي نتيجة الضغوط الأميركية من جهة، ونتيجة الغضب في التبنّي الروسي للمغامرات الإيرانية في اليمن، وهو تطوّر جديد بدوره، علماً أنّ روسيا كانت بقيت خارج المعادلة اليمنية بقرار مسبَق. وهذا يشير الى نقمة روسية من الغرب بسبب الضغوط عليها في سوريا.
الوضع في سوريا يزداد تأزّماً وخطورة. هذا في حدّ ذاته مصدر قلق من تدهورٍ في العلاقات الروسية ـ الغربية ومن إفرازاتها المأسوية على السوريين. موسكو حسمت امرَها بأنها تضع تحالفها مع دمشق وطهران في طليعة أولوياتها، وهي وسّعت الافق ليشمل حماية ايران من المحاسبة في اليمن. واشنطن حسمت أمرها بأنها لن تسمح لإيران أن تمتلك قواعد عسكرية في سوريا تربطها بلبنان عبر الاراضي العراقية والسورية. التهدئة لبنانياً قد تكون تكتيكاً لكنها ليست استراتيجيّة دائمة. لذلك يجدر بجميع المعنيّين جرد الحسابات بوعي ومسؤولية.