لو كانت أحزاب لبنان سياسية وعقائدية – لا مذهبية أو «زعامتلكية عائلية»، ولو لم تكن شريحة واسعة من اللبنانيين تلتزم إلى حد التبعية برأي زعيمها في الخيارات السياسية… لجازت المطالبة اليوم باستفتاء «حر» للرأي العام حول أي لبنان يريدون: لبنان الكبير أم لبنان المتصرفية، لبنان الموحد أم لبنان الفيدرالي؟
هذا لا يحول دون التساؤل عما إذا كان «معقولاً»، في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة من أوضاع المنطقة وأوضاع لبنان معًا، أن يبقى الكيان الجغرافي الذي فصّله عام 1920 المندوب السامي الفرنسي، الجنرال هنري غورو، على مقاس طموحات بطريرك الموارنة آنذاك، إلياس بطرس الحويك، موضع خلاف لدى الجيل الراهن من اللبنانيين خصوصًا بعد تكريسه «وطنًا نهائيًا» للبنانيين في اتفاق الطائف.
ولكن أن يستمر الخلاف على صيغة «لبنان الكبير» السياسية نحو قرن من الزمن – أي منذ زمن الجنرال هنري غورو إلى أيام الجنرال ميشال عون – مؤشر كاف، بحد ذاته، على فشل مؤسسة «الدولة» في هذه الفسحة الجغرافية الصغيرة من الشرق الأوسط. «وقد لا تكون مجرد صدفة أن يكرر اللبنانيون في تبريرهم لأزماتهم المستعصية مقولة: (ما في دولة بلبنان)».
يصعب الادعاء بأن ديمقراطية لبنان الهشة نظام سياسي يحتذى في عصره – ولكنه يبقى نظامًا رائدًا في موقعه الجغرافي. وطالما بقي على ريادته في منطقة تتعرض مجتمعاتها التعددية للإلغاء، يبقى نظامًا يستحق الاستظلال به إلى أن تهب رياح الحرية من جديد على منطقته.
مع ذلك، لا بد من التنويه بأن الجدل العلني الذي أطلقه تلويح رئيس كتلة الإصلاح والتغيير، الجنرال عون، بالفيدرالية نظامًا سياسيًا بديلاً للبنان، قدّم لـ«لبنان الكبير» شهادة لم يحلم الجنرال غورو بها عام 1920: تمسك كل الأحزاب والتيارات والقيادات اللبنانية الأخرى بوحدة لبنان السياسية ورفضها التفريط فيها حتى في إطار نظام فيدرالي.
أهي بداية فعل إيمان، وإن متأخرًا، بكيان «لبنان الكبير» أم اعتراف اضطراري بجدواه كملجأ أخير للأقليات الإثنية والدينية في منطقة تدفعها الأحداث دفعًا نحو ذهنية القرون الوسطى وعصرها؟
صحيح أن مفهوم لبنان «الملجأ» – خصوصًا للمسيحيين – لم يكن دافع الجنرال غورو الوحيد لتحقيق مشروع «اقتطاع» كيان لبناني «كبير» في الشرق الأوسط عام 1920 (وربما الدافع الثاني بعد تحويله إلى موطئ قدم للنفوذ الفرنسي في شرق البحر المتوسط). ولكن أن يلقى هذا الكيان، عام 2015، قبولاً «وطنيًا» يتعدى انتماءات اللبنانيين المذهبية وولاءاتهم الحزبية، ظاهرة قد يصح اعتبارها تاريخية، فالقرن الذي مضى على «إعلان غورو»، قرن تبدلت فيه موازين القوى الدولية والإقليمية وبموازاتها الخريطة الديموغرافية للبنان وتمزقت خلالها، ميدانيًا، خريطة سايكس – بيكو بأكملها.
عوامل سياسية وأمنية كهذه تبرر، مبدئيًا على الأقل، إعادة النظر في نظام لبنان السياسي إن لم يكن في «علة وجوده». من هذا المنظور يمكن تفهم طرح الجنرال عون لمشروع نظام سياسي جديد للبنان.
ولكن، لو جاز استبعاد الخلفية السياسية الشخصية لمطالبة عون بالفيدرالية في هذا الظرف بالذات، لصح إدراجها في خانة السعي لتأسيس لبنان أفضل. ولكن ملاحظته أن الفيدرالية «حل» يصبح ممكنًا «عندما تسد الأمور بوجهي» – أي عندما تُقطع عليه طريق قصر الرئاسة في بعبدا – ملاحظة تجعل طرحه للفيدرالية أقرب إلى المناورة السياسية منه إلى مشروع صياغة نظام سياسي بديل للبنان.
مع ذلك يبقى لطرح عون مأثرة سياسية: شبه الإجماع الذي أثارته بين اللبنانيين في رفضهم للفيدرالية، وهو إجماع يوحي بأن التبدل العددي في خريطة لبنان الديموغرافية لغير صالح المسيحيين عوّضه تنامي حسّ كل طوائفه، وليس المسيحيين فقط، لمخاطر تعرضها لأوتوقراطية معتقدية وديكتاتورية فكرية تفرض عليها بالقوة يكون من شأنها، في حال استمر تهديد «الداعشيين» لحدودهم الشرقية، القضاء على مجتمعها التعددي.
لا غرابة أن تكون كل طوائف لبنان اليوم «أقليات» في مواجهتها مخاطر فقدان حريتها وهويتها وأن تكون اليوم كلها «لبنانية» – بمفهوم الجنرال غورو للبنان الملجأ – في تمسكها بهويتها وخاصيتها.