IMLebanon

لبنان: أبعد حدود الوقاحة

يتواصل الحراك الشعبي ضد الفساد، ويتصاعد يوماً بعد يوم ويتخذ أشكالاً متعددة، منها ما هو في الوجهة الصحيحة، ومنه ما يمس بسلمية الحراك والشعارات الحقيقية التي انطلق منها. في المقابل، سجل مسلك الطبقة السياسية والطوائفية نقلة في التعاطي مع الحراك، فبعد الموقف المؤيد من أحزاب وقوى من المعسكرين الآذاريين في محاولة استيعابه، تحولت المواقف فاتخذت منحنيين متكاملين: الهجوم على الحراك عبر تنسيبه إلى قوى خارجية متآمرة وقوى مدسوسة تريد تعكير الأمن في البلد من جهة، ثم «النط» على الحراك نفسه وتنسيب مطالبه إلى هذا الطرف أو ذاك من قوى السلطة عبر اتهام الآخرين بالفساد وتنزيه نفسه عن هذه الموبقات.

لعل أصدق الشعارات التي أطلقها الحراك تلك التي وضعت الطبقة السياسية – الطوائفية جميعها في قفص الاتهام عن الفساد في البلاد وعن الخراب الذي وصل إليه البلد. كان تعبير «كلّن يعني كلّن» متبوعاً بنشر صور ممثلي الطوائف وزعمائها السياسيين الدافع الأساس للهجوم على الحراك وأخذه إلى أماكن أخرى. تصرف معسكر الثامن من آذار بوصفه غير مسؤول عن الفساد، وشن هجوماً على القوى التي تشمله في خانة الفاسدين. لم يلفت نظر ممثليهم إلى أنهم مشاركون في السلطة منذ تكوينها، وأنهم تحملوا مسؤولية وزارات هي في رأس المشكلات الراهنة سواء على صعيد الكهرباء أو النفايات أو الماء والطرقات، فيما الآذاريون الآخرون هم أصل الفساد في البلد. وتصرف معسكر الرابع عشر من آذار على المنوال نفسه فاعتبر ان المشاريع المنجزة هي من أفضاله وان الآخرين هم المسؤولون عن النهب والفساد.

هكذا أتحفنا المعسكران بخطابات ممجوجة عن تبرئة كل طرف لنفسه ورمي المسؤولية على الآخر، وتصاعد خطاب العفة من كل طرف وبراءته، بحيث لم يعد هناك مسؤول عما وصل اليه البلد، سوى تسرّب مجهولين أتوا من السماء فأفسدوا البلد والعباد. هكذا شهدنا منوعات في الخطابات الفاجرة وصلت إلى أقصى حدود الوقاحة والاستخفاف بعقول اللبنانيين. لم يعد يخفى على المواطن ان الجميع، من هم راهناً في السلطة، ومن هم خارجها، ومن تولى الحكم على امتداد عقود سابقة ومن والاه، كلهم فاسدون ومفسدون.

وسط معمعة التعميات والهروب من تحديد المسؤوليات حول الفساد، يضيع تعيين الأصل في الفساد اللبناني. لا شك في أن نظام المحاصصة الطائفية هو أصل الفساد الذي تتفرع منه سائر الفروع. عندما تكتسح الطوائف الدولة والمجتمع وتتصرف كل واحدة على انها الأصل وتسعى إلى إلحاق مؤسسات الدولة بها، فإنما تشرع الباب لنهب منظم لمصلحة القوى التي تنتمي إليها أو تدور في فلكها. دخل الجميع في المحاصصة ومارس الفساد في كل موقع كان فيه. في زمن الوصاية السورية، تواطأ كل من كان في السلطة على تعميم الفساد في أشكال مختلفة: في المشاريع التي وضعت لإعادة الإعمار وحل مشكلة الكهرباء وبناء السدود وشق الطرقات وغيرها، كانت الاعتمادات المرصدة تتوزع على ثلاث جبهات، الثلث للمشروع والثلث الثاني لزعيم المنطقة والطائفة في مكان المشروع، والثلث الآخر لقوى النظام السوري المهيمن. لاحقاً، بدأ اكتساح القوى الطائفية يأخذ منحى متنوعاً، فيجري تعطيل البلد لأشهر من أجل منع تمرير مشروع ما، ويجري تعطيل مؤسساته الدستورية من أجل فرض سلطة ذات وجهة محددة، ويتوقف البلد أشهراً أمام مطلب احد مكوناته بتعيين هذا الشخص في موقع معين، ويجري إدخال البلد في حروب خارجية تستنزف قواه واقتصاده. هذا التعطيل والتعليق للبلد والسيطرة على مكوناته من هذا الطرف او ذاك هي التي جعلت الفساد يستشري، وتجعل النهب للمال العام هدفاً لكل متنفذ أو طامح إلى السلطة.

إن تجديد استهداف الفساد وأصله ضروري في سياق الحراك الجاري. بعد تسجيل نقاط إيجابية في تظاهرة 29 آب (أغسطس)، انزلق الحراك إلى تصرفات غير مسؤولة لا تقع ضمن سلميته المطروحة، وهو منزلق، اذا ما استمر، سيحرف الحراك عن أهدافه. إن استعادة شعار محاربة الفساد، والكشف رقمياً واسمياً عن مسؤولين فيه، من المعسكرين، عبر استحضار المشاريع الحياتية الأساسية وما جرى فيها من فضائح مالية، وهي أمور معروفة جيداً، هما ما يعيد الحراك إلى جوهر أهدافه في الصراع مع السلطات الراهنة والسابقة. إن الأسوأ هو الإمعان في طرح شعارات إسقاط النظام الطائفي او استقالة الحكومة او شعارات انتخاب رئيس مباشر من الشعب او انتخابات نيابية… كلها شعارات لا جدوى منها راهناً، وهي أصلاً ليست من مهام مجتمع مدني. العاجل فعلاً، التشهير بالفاسدين والمفسدين بالأسماء والوقائع والأرقام ووضع ذلك في متناول الشعب اللبناني. تلك المعركة الفعلية، والأصعب بالتأكيد لأنها ستفضح الجميع وتضعهم في قفص الاتهام القائم على الحقائق.

كان الرئيس الراحل فؤاد شهاب يطلق على الطبقة السياسية السائدة في زمنه تعبير «أكلة الجبنة». أما الطبقة السياسية – الطوائفية المهيمنة راهناً، فلا شك أن الرئيس الراحل كان سيطلق عليها تعبير «أكلة النفايات».