Site icon IMLebanon

لبنان النفايات.. الكبير

ليس للبنان هوية نهائية ينتمي إليها. العناصر المكونة له، في الاجتماع والسياسة والجغرافية، هي في الأساس، خارج المواصفات والصلاحية. هو حالة مضطربة بمفعول رجعي وكيان متهالك بمفعول تقدمي. صورته الراهنة تقوم على اضطراب محدداته التاريخية المؤسسة له في مراحل ولادته الأولى. ولادته العسيرة لم تغادره منذ العام 1920. وجوده القسري، لا يخرج عن برزخية المراوحة بين بقاء وزوال. مساره التاريخي حروب وطائفية ونزاعات وأمراء. دولته «الكبيرة» بلغت من الكبر عتياً، ولكنها ما زالت قاصرة. هي دولة لم تمتلك من إرادة البقاء سوى أنها كانت، لأن الجنرال غورو أرادها يوما أن تكون.

لبنان الكبير جزء من كلٍ مفقود، وكل يفتقد إلى أجزائه. بلغ عامه السادس والتسعين ولما يبلغ الحلم بعد. أُخرج من التاريخ ولم تسعفه الجغرافيا. هو دولة زادت عن حدها فانقلبت إلى ضدها، ككائن حي معتل المولد وقد بلغ من العمر أرذله. لا موت يصادفه فيموت، ولا حياة طيبة تبقيه على قيد الحياة السوية. هو في الولادة جنين أبصر النور قبل إكتمال نموه في الرحم. وهو في منتصف العمر رجل «فيه شركاء متشاكسون». أما في الشيخوخة فهو عجوز أصابه الوهن والعجز والخرف.

يتشكل لبنان الكبير من هوية الأنا والآخر. يتمظهر في خرائط بلا معالم. يختلف في كونه ينتمي إلى الشيء وضده. ينمو من جهة أنه أكبر من حجمه وأصغر من دوره. يتموضع كأنه أقوى من ضعفه وأضعف من قوته. يجمع في وقت واحد بين ما تتكرس به ذاته وما تتكرس به إرادات الآخرين. هو وحدة في عين الكثرة، والتقاء على اختلاف، واستقلال على تبعية، ودولة في مزرعة، وفوضى بلا حسابات، وشعوب بلا حقوق، وطوائف بعيدة عن الأديان، وساحة في إقليم، وأوطان عديدة في وطن الوهم الواحد.

لبنان الكبير هوية معتلة الأول والآخر. الهوية هذه كانت وما زالت منتجة للأزمات؛ لأنها أولاً عصيّة على الاكتمال نتيجة تدافع مكوّناتها، ولأنها أيضاً ممنوعة من التجزئة بسبب انعدام القدرة على التقسيم. فيما الاجتماع اللبناني يتألف، في وجوده واستمراره، من جماعات متجاورة غير متوحدة، ومتباعدة غير منفصلة. عدم الاستقرار المجتمعي في كينونة الكيان، حالة دائمة لمصلحة كيانات مجتمعية متباينة على جغرافيات صغيرة متلاصقة، يحكمها التعايش الاضطراري الذي لا يرقى الى مستوى الانصهار الوطني والإنساني.

هوية لبنان الكبير، إذا صحت التسمية، تمضي في الاتجاه المعاكس. هي، بوصفها مركّباً اصطناعياً وليس حقيقياً، تسلك مساراً تحولياً الى الخلف لا إلى الأمام، وتتجه نحو التحلل والارتداد الى مكوّناتها الأولية، مع إفرازها لأسوأ ما يمكن أن تنتجه الهويات المشوّهة.

لبنان في طوره الراهن، مهدد بالسقوط إلى ما هو أكثر انحداراً، ومرشح للانتقال من أزماته المعهودة إلى أزمات أشد فتكاً، من قبيل سقوط الدولة، انهيار الاقتصاد، انتشار الأوبئة، وبالتالي تحول المشهد اللبناني العام من الحرمان إلى الفوضى، ومن المجتمع الى الغابة، ومن التعايش الى الاحتراب.

لبنان النفايات الكبير مقدمة للبنان آخر أكثر سوداوية.