عند كتابتي هذه السطور كانت محنة العسكريين المختطفين على أيدي مسلحي «داعش» و«جبهة النصرة» منعطفا دراماتيكيا تمثل في تأجيل ذوي العسكريين تحركاتهم في الشارع بعد «توقيف» زوجة أبي بكر البغدادي أمير «داعش» وابنتها داخل الأراضي اللبنانية.
وفق الأجهزة الأمنية اللبنانية، التي غدت المصدر الرسمي الوحيد للأخبار والتسريبات في ظل غياب شبه كامل لدور الإعلام الحقيقي، فإن المرأة وابنتها أوقفتهما استخبارات الجيش. ومن دون الخوض والشك بتفاصيل لا تنتهي ولا يُعرف أيها مسرّب وأيها صحيح، كان العنصر الأهم هو أن المرأة وابنتها أوقفتا قبل عشرة أيام.. نعم عشرة أيام!
هذه المفاجأة تضع النقاط على الحروف في عدة اتجاهات.. أبرزها أن الحياة السياسية الطبيعية التي يودّ اللبنانيون التوهم أنهم ما زالوا يعيشونها انتهت، ومع انتهائها عادوا متفرجين صغارا على «لعبة أمم» تصنع حلقاتها أجهزة استخباراتية محلية وعربية وإقليمية ودولية. اليوم ما عاد ذوو العسكريين المختطفين وحدهم «أوراق خريف» في مهب ريح المخططات الفظيعة التي تمرّر على أنقاض الدولة اللبنانية، بل يشاركهم هذا المصير البائس كل اللبنانيين وكل أبناء المشرق الأوسط.
من دون مبالغة، لبنان وكيانات المنطقة تواجه اليوم عصر ما بعد الاستقلالات التي بنيت على انتدابات 1920 وتأسيس دولة إسرائيل. وبالتالي، فهي أمام تحدٍّ وجودي يزداد تعقيدا مع تصارع المشاريع الطائفية والقومية، ونهضة الأحلام الإمبراطورية غير العربية وتوسعها في أرض العرب، وأخيرا لا آخرا قلق الأقليات المستقوية من جديد بحماية أجنبية، سواء اعترفت بذلك أم لم تعترف.
أمام هذا الواقع المأزوم تغدو الشعارات الوطنية الكبيرة أضغاث أحلام، ومسألة السيادة مزحة ثقيلة، والزعامة التاريخية أو «الرئيس القوي» – كما يعد النائب ميشال عون أتباعه في لبنان – حالة من «الدون كيشوتية» الفارغة. قبل بضعة أيام، قال جبران باسيل، وزير الخارجية وصهر عون، أمام القمة الفرنكفونية الخامسة عشرة المنعقدة في السنغال «إن لبنان اليوم في عين العاصفة، وإن انعدام الاستقرار في المنطقة كما النزاع السوري ينعكسان على بلدنا الذي يواجه تحديات وجودية هي الأخطر في تاريخه الحديث». وعدّد هذه التحديات بما يلي:
– «على صعيد الاستقرار السياسي الداخلي: تواجه الحياة السياسية في لبنان صعوبة لناحية العمل بطريقة طبيعية. ومن الضروري انتخاب رئيس للجمهورية من دون أي تدخّل خارجي وفي أقرب وقت، وأن يجري التصويت على قانون انتخاب أكثر ديمقراطية وإنصافا.
– على صعيد النزوح السوري الكثيف إلى لبنان: إن عدد هؤلاء، إذا أضفنا إليهم عدد اللاجئين الفلسطينيين الموجودين أصلا عندنا، قد ناهز بسهولة مليوني شخص، مقارنة بنسبة السكان في لبنان التي تبلغ أربعة ملايين. ولهذا الرقم القياسي الحزين ثمن باهظ. وعلى لبنان، الذي يقدم نموذجا فريدا في كرمه، تحقيق التوازن بين الحاجات الإنسانية وبين الواجب غير القابل للتفاوض بالمحافظة على سلامة البلد وبقائه. – على صعيد المحاولات الإرهابية للعبث بالاستقرار: وجد لبنان نفسه في مرمى المجموعات الإرهابية أمثال (داعش)، وهدفها زرع الرعب والتعصّب ومد نفوذها إلى أرضنا. وتعطي هذه المنظمات نماذج فكرية غريبة عن ثقافتنا المتسامحة، والبعيدة كل البعد عن نظامنا السياسي القائم على التعدّدية. وتمثل ردنا بانتشار الجيش ومحاربته بحزم تلك المجموعات لاستئصالها».
هذا كلام بليغ، وكان ليصبح ذا معنى كبير لو كان مطلقه غير السيد باسيل. ذلك أن الوزير والصهر «العوني» قال جزءا من الحقيقة لكنه اكتفى بما يناسبه ويناسب «تياره» منها.
أولا، في ما يخص «الاستقرار السياسي الداخلي»، صحيح لا تعمل الحياة السياسية في لبنان بصورة طبيعية. لكن السبب أن المؤسسات السياسية للدولة، بل الدولة بأسرها، خاضعة لدويلة ثيوقراطية، طائفية اللون، عسكرية النسيج وخارجية الولاء والقرار، هي دويلة «حزب الله»، الذي يحالفه عون وصهره، والذي بات متعذرا الفصل بين أين ينتهي دوره السياسي والأمني وأين يبدأ دور الدولة.. المفترض أنه يؤمن بـ«سيادتها». ولقد كان «حزب الله» وتيار عون وما زالا وراء تعطيل انتخاب رئيس للجمهورية، لأن «التدخل الخارجي» الإيراني والسوري، بالذات، يريد تنصيب عون رئيسا تماما مثلما نصّبته أصوات «حزب الله» صاحب أكبر برلمانية مسيحية. وأما عن قانون انتخاب «أكثر ديمقراطية وإنصافا» فلا يمكن إذا طبّق حرفيا إلا أن ينتهي بـ«مثالثة شيعية – سنية – مسيحية» بدلا من «المناصفة» التي كفلها للمسيحيين «اتفاق الطائف» المرفوض عونيا وحزب اللهيا.
ثانيا، حيال النزوح السوري إلى لبنان، فإن الجهة التي تسبّبت في هذه المحنة للسوريين واللبنانيين هي النظام السوري الذي قتل من شعبه نحو 300 ألف ضحية وشهيد وهجّر وشرّد منه نحو عشرة ملايين إنسان، جلّهم من النساء والشيوخ والأطفال. والمفارقة أن باسيل صديق لهذا النظام وحليف سياسي له ومدافع عنه. وعندما تفاقمت أزمة النزوح كان فريق الوزير باسيل على رأس المحرّضين ضد النازحين.
وثالثا، وأخيرا، في موضوع الخطر الإرهابي، لا شك في خطر «داعش»، وكذلك «النصرة» التابعة لتنظيم القاعدة، وقبلهما «فتح الإسلام»، ومن لف لفّها. غير أن هذه الجماعات ظهرت بعدما شارك «حزب الله» في حرب النظام السوري على شعبه، وكانت مثيلاتها قد أنبتت أو نُشرت في لبنان أصلا إبان هيمنة النظام الأمني السوري – اللبناني، تماما مثلما نشأت وترعرعت في ظل النظام الأمني السوري داخل سوريا. ثم إن الإرهاب الطائفي يشمل فئات دينية ومذهبية عديدة إذا كان للمحلل التحلي بالموضوعية. والولايات المتحدة، التي تبدو اليوم مرتاحة لبقاء نظام بشار الأسد، ومتحمسة للتحالف مع «راعية» الإقليمي إيران، لطالما اعتبرت إيران «دولة راعية للإرهاب»، وما زالت تعتبر «حزب الله» تنظيما «إرهابيا».
وهكذا، فالخطورة كل الخطورة اليوم، التماهي الكامل بين «لبنان – الدولة»، لا سيما الجيش، في حرب مفتوحة على إرهاب انتقائي.. يجمع الشتاء والصيف على سطح واحد.
لبنان بحدوده الحالية وتركيبته الهشة وطبقته السياسية الهامشية لن يصمد أمام حرب مصيرية وقذرة.