تساءَلنا في مقال سابق في «الحياة» عما إذا كان عهد الرئيس العماد ميشال عون هو في بدايته أو في نهايته؟ (السبت، 25 آذار- مارس 2017). كان للتساؤل ما يبرره. وقياساً على مجريات الأمور فإن رأس الدولة من تتراكم عليه المسؤوليات والانشغالات والمطالب، ويكون بلغ القسم الأكبر من ولايته الدستورية. أما مع الرئيس عون فقد بكّرت المطالب والأزمات والترسبات تواجهه في الفترة الأولى من بداية عهده.
وبعدما أمكن تحقيق التفاهم على اختيار رئيس للجمهورية ينهي الشغور الرئاسي، وامتد هذا التفاهم ليشمل تأليف الرئيس سعد الحريري الحكومة الثلاثينية الجديدة، فساد الاعتقاد أن لبنان سيشهد حالة من الهدوء والاستقرار تعوض السنوات العجاف التي انقضت، إلى أن هب إعصار شديد يعصف بالبلاد ويعبث بها، ألا وهو صعوبة إيجاد قواسم مشتركة بين مختلف «الفصائل اللبنانية» على القانون الجديد للانتخابات النيابية.
واشتدت الخلافات بين أهل الحكم أو من تبقى منهم ورؤساء الكتل النيابية لدرجة استحال معها على مجلس النواب احترام المهل الدستورية لإجراء الانتخابات العامة في الموعد المتفق عليه سابقاً.
وفي الوقت الذي دعا رئيس مجلس النواب نبيه برى إلى عقد جلسة تشريعية لمناقشة إمكانية تمديد فترة مجلس النواب للمرة الثالثة، وقعت البلاد والعباد في حال شديد التأزم. وبينما كانت الأحزاب الرافضة لهذا الطرح تستعد لتنظيم التظاهرات احتجاجاً على تمديد ولاية مجلس النواب بحسب ما ورد في نص مشروع القانون المعجل الذي قدمه الخبير الدستوري نقولا فتوش، وفيما بلغ حال الاحتقان السياسي والوطني درجة عالية من التوتر، لجأ رئيس الجمهورية إلى استخدام حقه الدستوري استناداً إلى المادة 59 التي تنص على «أن لرئيس الجمهورية تأجيل انعقاد مجلس النواب إلى أمد لا يتجاوز شهراً واحداً».
وأمكن بهذا الإجراء تأجيل أزمة الاتفاق على قانون انتخابي جديد. ويقول رئيس مجلس النواب السابق، والمرجع في الدستور، حسين الحسيني، إن الرئيس عون هو على حق في اللجوء إلى المادة 59، مضيفاً: «إنه أمر طبيعي في هذه الظروف، خصوصاً أن التمديد الذي جرى للمرة الأولى عام 2013 جاءَ مخالفاً للمرسوم الذي أصدره رئيس الجمهورية ميشال سليمان في حينه، إذ إن التمديد يجب أن يأتي من السلطة المخولة إجراء الانتخابات أي السلطة التنفيذية المخولة وحدها تحديد إمكان إجراء الانتخابات أو عدمه».
وهنا بهذا «الإجراء» أمكن تأجيل «الكباش الانتخابي» لمدة شهر يؤمل أن يتمكن رؤساء الكتل النيابية والأحزاب الوزارية أن تتوصل خلاله إلى اتفاق يحسم الجدل البيزنطي العقيم حول اعتماد قانون النسبية، أو القانون الأكثري أو المختلط، وإلا فإن لبنان يبدو في حالة عجز عن التفاهم على قانون جديد تجرى على أساسه الانتخابات المؤمل أن تحدد أحجام التركيبات الجديدة في المجلس النيابي الوليد.
لكن مشاكل لبنان لم تقف عند هذا الحد، وكان لافتاً الرئيس سعد الحريري عندما صور الوضع على أنه «مخيّم»!
خطير هو توصيف الرئيس الحريري للبنان بالمخيم، لكن هذا التوصيف له مبرراته. وهنا تكمن الخطورة الفعلية في الواقع اللبناني الراهن عندما يكون الحديث عن أزمة النازحين السوريين الذين تجاوزت أعدادهم المليون وسبعمئة ألف شخص، الأمر الذي يشكل مجموعة من الأعباءَ على لبنان، لا يستطيع أن يتحملها على كل الصعد الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والحياتية العامة.
وفي المؤتمر الذي عقد في بروكسيل الأسبوع الماضي قالها الرئيس الحريري بالفم الملآن: «إن لبنان لم يعد قادراً بأي شكل من الأشكال على تحمل أعباءَ مليون ونصف المليون من النازحين السوريين».
وأضاف: «إن البنية التحتية المهيأة في لبنان لأربعة ملايين شخص تواجه الآن ستة ملايين»! وفي منطق الأمور أن يتم انتقال الشعب من «المخيّم» إلى الوطن، إلا في لبنان حيث يتحول من وطن إلى… مخيّم.
وهنا حديث المواجع والفواجع! حيث ارتكبت مجموعة من الأخطاء والخطايا في مسألة التعاطي مع أزمة النازحين السوريين منذ بداية الأزمة في سورية وحتى اليوم.
لقد انتهى مؤتمر بروكسيل للدول المانحة إلى وعود «بتقديم مبلغ 11 بليون دولار إضافة إلى بعض القروض».
وحول مأساة النازحين السوريين إلى لبنان ومأساة لبنان حيال جموع النازحين كلام يجب أن يقال بمنتهى الصراحة والوضوح.
يجب الاعتراف أولاً من دون مواربة أو تردد أن وجود الآلاف من السوريين في لبنان أثار الكثير من الانعكاسات السلبية على أكثر من صعيد وفي أكثر من مجال، بقطع النظر عن التعبير عن عناصر «الأخوة العربية» أو «الجار قبل الدار» أو «مثل الدار» إلى آخر الشعارات الشعبوية كتلك التي تطلق في المهرجانات الانتخابية.
إن منافسة الأيادي العاملة السورية أوقعت الكثير من الأيادي العاملة اللبنانية بحالات من الحرمان والتمييز بسبب عدم تكافؤ الفرص بين بعض اللبنانيين وبعض السوريين.
وهذا إضافة إلى بعض النواحي الأمنية، إذ تمكنت الأجهزة الأمنية من القبض على عشرات بل على مئات من السوريين النازحين من المتورطين بالعديد من الأعمال مع الشبكات المشبوهة في غير مجال لا الآداب أولها، ولا تزايد جرائم السرقات آخرها، فضلاً عن وجود حالات من الإحباط الشديد لدى العديد من الشباب اللبنانيين.
ويلاحظ هؤلاء اللبنانيون أن الحكم في لبنان يقف على أبواب دول العالم متسولاً لمنح بعض البلايين أو بعض الملايين لإنفاقها على النازحين السوريين. ولكن مع الارتفاع الكبير في نسبة العاطلين من العمل في لبنان إلى مستويات تبعث على الحذر وعلى الخوف من النتائج والتداعيات، وبالإضافة إلى ذلك الارتفاع المتزايد في نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر (ما يزيد على 37 في المئة) كلها عوامل تزيد من الإحباط لدى الشباب اللبنانيين الذين عبّر بعضهم في الآونة الأخيرة عما إذا كان بالإمكان «إلحاقهم» بالمساعدات التي توزع على النازحين أو اللاجئين.
أي أن العديد من الشباب اللبنانيين يسعون للحصول على لقب نازح أملاً بالإفادة من بعض العطاءات والتقديمات التي تتولاها بعض المؤسسات الدولية العاملة تحت إمرة الأمم المتحدة.
ومن هنا يجب النظر إلى التساؤل الوارد في هذا المقال: «ماذا عن النازحين اللبنانيين؟»… والنزوح هنا بالمعنى المجازي. كل ما تحدثنا عنه حتى الآن قد يغطي الفروع والروافد الصغيرة قياساً على الأزمة الكبرى: سورية، وبخاصة ما طرأ من تطورات على هذه الحرب التي دخلت عامها السابع، بعد القصف الصاروخي الأميركي والتداعيات التي نشأت وستنشأ عنه.
لقد قدم خبراء الأمن القومي مجموعة خيارات للرئيس دونالد ترامب تتعلق بسورية ومن أبرزها: خطة عسكرية شاملة تستهدف قصف القواعد العسكرية السورية بما في ذلك الطائرات الروسية، وكان الخيار الآخر يقتصر على «ضربة محدودة» تستهدف مطار الشعيرات.
وكان من الطبيعي أن تختلف التفسيرات حول هذا التطور وما الذي سيعقبه، لكن الأمر المؤكد أن قصف 59 صاروخاً من نوع «توما هوك» باتجاه الموقع السوري أراد ترامب منه أن يقول إن في البيت الأبيض رجل حسم وحزم بدلاً من باراك أوباما المتردد.
وعلى رغم الاهتزاز الذي أثارته الغارة الصاروخية على العلاقات بين الولايات المتحدة وروسيا فإن التعاون بين موسكو- بوتين، وواشنطن- ترامب، سيبقى قائماً ولو مع تغيير في بعض قواعد شروط التعاون بين الجانبين على قياس السنوات الأخيرة، حيث كان لروسيا موقع الـــسبق والمبادرة في سورية، فيما كان لواشنطن موقع رد الفعل والابتعاد عن أي مغامرة عسكرية كبيرة يمكن أن تزج القوات الأميركية بالمزيد من التورط في الرمال العربية الشديدة الحراك.
وبعد…
لقد بدأت المقال بلبنان وننتهي به.
كان لبنان ولا يزال يعاني من ارتدادات كل ما شهدته سورية حتى الآن وما ستشهده، وربما سيكون من الأجدى أن يفكر لبنان بحل عقدة الاتصال مع «النظام السوري» لحل العديد من القضايا والشؤون المشتركة بين البلدين.
إن أزمة النازحين السوريين إلى لبنان مقبلة على فصول أكثر سوءاً مما شهدناه حتى الآن، خصوصاً عندما نعلم أن لا نهاية واضحة أو محددة للحرب في سورية، وهو الأمر الذي يجب أن يثير القلق لدى اللبنانيين مع أحاديث هامسة بـ «توطين النازحين» كأمر واقع.
أما قضية الأماكن الآمنة فلا يبدو أنها فكرة عملية قابلة للحياة. وإضافة إلى ذلك فان ما من حل مطروح للأزمة السورية، وعليه تبقى الأزمة وارتداداتها ماثلة لكل من فرضت عليه الظروف التعايش مع الحرب المدمرة في سورية.
إن جميع الاقتراحات الدولية في شأن النازحين لا تنص على وضوح في الرؤية، بل على العكس، لأن هذه الأطروحات الدولية تشير إلى إبقاء النازحين في أقرب مكان لهم، ومن حق لبنان، بل من واجبه، أن يشعر بالقلق من هذا الموضوع ولا تكفي التطمينات الشفهية التي تقدم لبعض المسؤولين اللبنانيين من هنا وهناك وضمن كلام تطغى عليه المجاملة أكثر من الأطروحات الواقعية.
ومرة جديدة، يسأل «النازحون اللبنانيون» عن مصيرهم ومن يحميهم من زحف النازحين السوريين، وإصرار بعضهم على القول أنهم باقون في لبنان ولن يعودوا إلى سورية «أياً كانت الظروف».
وفي العودة إلى توصيف الرئيس الحريري لبنان بالمخيم، فهذا التوصيف محفوف بالكثير من الأخطار. وهنا لا يمكن التغاضي عما شهده مخيم «عين الحلوة» خلال الأيام القليلة الماضية.
ويعلم أهل الحكم والحكمة أن مخيم عين الحلوة يضم في جيوبه وزواريبه الضيقة كل ما يثير القلق ويبعث على الاستنفار والتنبه.
والكلام الصحيح: يجب أن يصبح المخيم هو الوطن، لا أن يتحول الوطن إلى… مخيم.