يوم الثلاثاء في 24/ 7/ 2018 خرج علينا النائب عبد الرحيم مراد، العائد إلى المجلس النيابي بعد طول غياب، داعياً لإيقاف المحكمة الدولية الخاصة التي تشكلت عام 2007 بقرارٍ من مجلس الأمن رقمه 1757 للتحقيق في مقتل الرئيس رفيق الحريري عام 2005. وحجة مراد أن المحكمة ما كان لها مسوِّغ، وأنه يمكن للجهاز القضائي اللبناني القيام بالمهمة، والاستعانة بقضاة دوليين إذا لزم الأمر! ومن جهة ثانية، تصدى النائب الجديد أيضاً اللواء المتقاعد جميل السيد مراراً وبقسوة لرئيس الحكومة المكلف، وقدم تفسيرات عجيبة للدستور. أما الظاهرة الثالثة فتمثلت بالنائب طلال أرسلان الذي شنّ هجوماً كبيراً على النائب والوزير السابق وليد جنبلاط اعتبره فيه مجرماً ومن أبطال الحرب الأهلية، لأنه يُنكر عليه الحقَّ في أن يكونَ وزيراً في الحكومة التي يحاول الرئيس سعد الحريري تشكيلها منذ شهرين. وكان المكتب الإعلامي لرئيس الجمهورية، وعلى أثر رفض الرئيس مقترحاً من رئيس الحكومة المكلَّف للتشكيلة العتيدة، قد أصدر بياناً يعطي رئيس الجمهورية صلاحياتٍ شاسعة ينسبها كلها للأعراف والدستور. وفي كل يومٍ تقريباً يشنّ جبران باسيل وزير الخارجية ورئيس التيار الوطني الحر هجوماً على الدكتور سمير جعجع ينكر فيه عليه الحقّ في توزير أربعة أو خمسة في الحكومة الجاري تشكيلها، ويعتبر نفسه وحزبه (وهو حزب رئيس الجمهورية) صاحب الحق الأوحد في تمثيل المسيحيين، وبخاصة بعد أن نجح بمساعدة الجيش في نصب صليبٍ شامخٍ على رأس تلة في بلدة بشتودار السنية في أعالي البترون! فهل هناك دلالة أبلغ على قوة مسيحية باسيل من ذلك النُصُب الهائل؟!
كل هذه الظواهر الشاذة، يمكن أن يكون سببها بالطبع مهرجانات وتهريجات الصَخَب والضجيج التي تصاحب عادة تشكيل الحكومات. لكنها في الحقيقة تتجاوزُ هذا الأمر إذا أخذنا بالاعتبار الظروف التي تجري فيها، والأشخاص القائمين بها وعليها. فالثلاثة: مراد والسيد وأرسلان، من أقدم أعوان ومستتبعي النظام السوري الخالد، والرابع جبران باسيل يحاول باستماتة الانضمام إلى الركْب، بعد مشاهد وإمكانيات صعود الأسد في الشهور الأخيرة بمعاونة الإيرانيين والروس وإسرائيل. تبدو اجتهادات، وأنها تتم بتوجيهٍ سوري من أنّه لا أحد في الجمهور السني – حتى بين ناخبيه أنفسهم – يؤيد وقف محاكمة قتلة الرئيس رفيق الحريري، لكنه يعرف أنّ وقف ملاحقة أولئك المتهمين يخدم الحزب والنظامين السوري والإيراني، لأنّ المطلوبين حتى الآن كلهم من الحزب. أما جميل السيد الذي ما كان يوماً فقيهاً دستورياً، فالمعروف عنه عداؤه الشديد والمعلن لآل الحريري، واعتزازه بأنه أسدي منذ ولادته. والأمر نفسه يمكن أن يقال عن هجمات أرسلان على جنبلاط لقسمة الطائفة الدرزية الصغيرة من جهة، ولإرعاب جنبلاط من عودة النفوذ السوري. وهذه الظواهر كلها، وبخاصة تصريحات المكتب الإعلامي للرئيس، وتصرفات باسيل ووزير عدله ودفاعه في قضية النازحين السوريين، وزيارة وزراء من حكومة تصريف الأعمال إلى سوريا – يُرادُ بها الضغطُ على الرئيس المكلف، لكي لا يتمكن من تشكيل الحكومة إلا بشروط الحزب والرئيس، التي لا تختلف إلاّ في تفاصيل قليلة.
لكنْ كما سبق القول؛ فإنّ هذه الظواهر والمظاهر، ومن ضمنها الهجوم المتواتر على رئيس الحكومة، وتصرف الوزراء على هواهم؛ كلُّ ذلك يحيل الأمر إلى ما يتجاوز استدعاء النظام السوري للداخل من جديد. إذ إنّ السنوات الأخيرة شهدت تقوقعاً طائفياً، وتقاسم إدارات الدولة وقراراتها، واستشراء الفساد من دون حسيبٍ ولا رقيب، وانهيار الاقتصاد، وتفاقُم الدَين العام؛ بحيث ظهر إلى العلن توجهان: توجُّه تفكيك الطائف والدستور وتجاوُزهما من دون حاجة إلى تعديل رسمي. والتوجُّه الآخر يقول إنّ نتائج الانتخابات الأخيرة، التي كونت أكثرية أُخرى في المجلس النيابي، تجعل من الممكن إعادة النظر في الدستور من أساسه، دونما اكتفاءٍ بالسوابق والأعراف المتكونة منذ احتلال «حزب الله» لبيروت عام 2008.
يعاني لبنان في عهد الرئيس عون، وسطوة «حزب الله»، من عزلة قاسية ما عرف مثلها في تاريخه المضطرب، وحروبه الأهلية، وغزوات إسرائيل له. وقد كان هناك رأي يقول إنّ انتخاب رئيسٍ للبلاد، ولو كان حليفاً لـ«حزب الله»، أفضل من الفراغ. لأنّ الفراغ في المنصب السامي يتحول إلى أزمة للنظام السياسي، فتعلو الدعوات للتغيير الذي قد يفكِّكُ لبنان. لكن الرئيس «القويَّ» ما غيَّر كثيراً. بل حدثت ارتكاساتٌ على عدة صُعُدٍ ما كانت جارية حتى في حالات الفراغ الرئاسي أو الحكومي. وأكبرُ الأدلة على ذلك إعلانُ الأمين العام للأُمم المتحدة غوتيريش أمام مجلس الأمن بمناسبة صدور التقرير نصف السنوي عن مدى إنفاذ القرار الدولي رقم 1701. إذْ جاءت فيه نقطتان بارزتان: القول إنّ وجود الحزب وسلاحه لا يحول فقط دون إنفاذ القرار الدولي، بل ويمنعُ قيامَ دولة في لبنان! أما النقطة الأُخرى فتدعو اللبنانيين إلى تشكيل حكومة توافُقٍ وطني بسرعة، لتجنب التداعيات المفزعة على كيان البلاد، وعلى اقتصادها واستقرارها! فلنتصور مدى عمق الأزمة التي نحن فيها بحيث يرجونا الأمين العام أن نشكّل حكومة ليبقى هناك شاهدٌ على وجود دولة في لبنان، غير دولة «حزب الله»! لقد كان هناك رأي شاركت فيه الولايات المتحدة ودول أوروبية أنه مهما كان قانون الانتخابات المشتَرَع سيئاً؛ فإنّ إجراء الانتخابات سيغيّر الوضع إلى الأفضل، لأنّ الاقتراع ملح الديمقراطية(!). وها نحن نرى أنّ الانتخابات النيابية – شأنها في ذلك شأن انتخاب الرئيس القوي – زادت الأوضاع سوءاً وتردياً. ووسط تغير الأوضاع الإقليمية، واستخدام إيران للحزب في حروب المنطقة، والتناحُر داخل الطوائف وفيما بينها، والتردي الكبير للأوضاع الاقتصادية والمالية؛ فإنّ أزمة النظام بلغت حدوداً غير مسبوقة.
ما الذي ينبغي فعله؟ الذي ينبغي فعلُهُ هو الدفاع عن الجمهورية، والنهوض لصون الدولة من طريق صَون الطائف والدستور. في عام 2005، تاريخ اغتيال الرئيس رفيق الحريري، قام نهوضٌ وطني أخرج العسكر السوري، وجمع صفوف اللبنانيين الذين انصرفوا أو حاولوا استعادة الاستقلال واستعادة الدولة. ورغم أنّ الحزب وأنصاره أقفلوا المجلس النيابي لأكثر من عامٍ ونصف لأنّ الأكثرية فيه ما كانت لصالحهم، ورغم احتلال الحزب لبيروت عام 2008 بالسلاح، ورغم تحالف الجنرال عون مع الحزب ضد الطائف والدستور؛ فإن المناعة التي ولَّدَها النهوض العام، حالت دون التصرف العلني ضد دستور الطائف، أما الآن فلا يمكن العمل من داخل المجلس النيابي لإحقاق دولة القانون. ولذلك فإنّ الأملَ أن يظلَّ ممكناً استنهاض المثقفين اللبنانيين وجمعيات المجتمع المدني، والشخصيات اللبنانية العامة غير المشاركة في التسوية التي جاءت بالعهد وحكومته الأولى وقانون الانتخابات المعوجّ وانتخابات الطوائف، وشرعنة الفساد من أوسع أبوابه. ويمكن الإفادة في ذلك من الترديات التي لم تعد مقبولة ولا معقولة، ومن الوعي المتزايد في أوساط الشباب أنّ استمرار هذه الحالة من المحال. فقد نالت الأزمة المتفاقمة من استقرار معظم اللبنانيين ومن عيشهم. فالوضع خطير، والاستخذاء للواقع أخطر. وهناك فريقٌ بالطبع بين نهوض الاختيار، ونهوض الضرورة، لكنْ إذا كان هذا هو الممكن الآن، فيجب اجتراحه:
إذا لم يكن إلاّ الأسنة مركباً
فما حيلة المضطر إلاّ ركوبها