“مشوار البحر” مشروع طبيعي جدّاً في فصل الصيف، هكذا يُفترض أن يكون في كلّ دول العالم التي استقبلت هذا الموسم. لكنّ الصورة تختلف كثيراً في لبنان لدرجة أنّه أصبح من سابع المستحيلات، نتيجة عوامل بيئية واقتصادية عدّة.
لنُسلّم جدلاً أنّ عائلة لبنانية محدودة الدخل، وهذه حال الغالبية، أرادت الإفادة من أشعة الشمس، وترطيب أجساد أطفالها بالقليل من المياه المالحة في عطلة نهاية الاسبوع، فسيكون البحر وجهتها الأولى. ولهذا الغرض تتعدّد الاقتراحات أمامها وسيكون أوّلها التوجّه إلى مجمّع خاص، وذلك لضمان سلامة الأولاد في المياه في ظل وجود رجل الانقاذ أو الـ”Maitre nageur”.
أسعار حارقة
ولكن قبل تنفيذ المشروع، قرّرت العائلة الاستفسار من إحدى صديقاتها إلى أيّ منتجع يجب التوجّه. فالخيارات كثيرة ومتنوعة ومختلفة… لكن في الوقت عينه “مستحيلة”.
راحت الصديقة تُخبر عن النظافة في المشروع الفلاني، عن الخدمات اللامتناهية، عن الجو المميّز، عن المأكولات اللذيذة، وعن النشاطات التي يمكن أن يستفيد منها الأولاد بينما يشرب الأهل “الاركيلة”.
فرحت العائلة بهذه المعطيات التي تُبشّر بتمضية نهار استثنائي مليء بالتسلية، قبل أن تستفسر عن الكلفة التقريبية ليوم مماثل، وتصدم بمعرفة أنّ هذا المشروع يضاهي اكثر من 15 في المئة من راتب العائلة، ولكنّه كان ليكون أقلّ قيمة لو أنها قرّرت تمضيته خلال أيام الاسبوع العادية لجهة رسم الدخول، ناهيك عن “الباركينغ” والطعام والشرب، وفي حال “استَحلى” الاولاد أيّ شيء من المحال الموجودة.
فكّرت هذه العائلة ملياً بالموضوع، وأمام بكاء الاولاد وإصرارهم على الذهاب، عاوَدت الام الاتصال بصديقتها سائلةً عن إمكان إدخال المأكولات والمشروبات، ليأتيها الجواب “طبعاً لأ… ماي ما فيكي تفَوّتي”، فرجال أمن المشروع يكشفون على أغراض الجميع، ويصادرون كل المأكولات، حتى أنّ هناك أشخاصاً يُغمى عليهم من قلّة الشرب نتيجة تعرضهم للشمس طوال اليوم، ولكن اطمئني إنّ عبوة مياه كبيرة بسعر 8000 ليرة لبنانية تكفيكم، وانتبهوا ضعوها بعيداً عن الشمس حتى لا تسخن!
وفي النتيجة، لسنا في جزر البورا بورا ولا في جزر المالديف ولا حتّى في موناكو! هذه الاسعار موجودة في لبنان في غالبية المجمّعات السياحية.
وعلى رغم صرخة اللبنانيين تجاه موجة الغلاء، لا تتدخل وزارة السياحة في الاسعار الخيالية التي تُحدّدها المؤسسات السياحية البحرية من حيث تعرفة الدخول وأسعار المأكولات والمشروبات، لأنّ لبنان يعتمد نظاماً اقتصادياً حراً، بما معناه أنه قد يصِل سعر زجاجة المياه إلى 15 الف ليرة بالإضافة الى الاحتكار جرّاء النظام الداخلي الذي تفرضه المنتجعات مانعة من خلاله إدخال المأكولات.
ولكنّ الوزارة تفرض في المقابل أن تكون الاسعار منشورة على المدخل، وقد تكون هذه الخطوة ليفاجأ الزبون ويعود أدراجه من حيث أتى! وبذلك يكون مشروع زيارة أحد المنتجعات قد أصبح من سابع المستحيلات!
لكنّ العائلة لم تفقد الأمل وانتقلت إلى الخطة الثانية، أي ارتياد المسابح العامّة لعلّ هذا المشروع يضخّ في عروقهم هورمونات السعادة وينسيهم فشل مشروعهم الأول.
مخالفات بالجملة
ولأننا نتمثّل في كل تفاصيل حياتنا بدول الغرب ظناً منّا أنّنا بهذه الطريقة نقترب من الرقي، نعتقد مثلاً أنّ مسابحنا العمومية مثل الرملة البيضاء في بيروت وغيرها في جونية وطرابلس، تُشبه الشواطئ الشعبية المحترمة في باريس.
ولكن من يريد التوجّه إلى هذه الأماكن يجب أن يتمتع بالجرأة للاختلاط ببقايا هذه الشواطئ مثل النفايات وما تركه النازحون، وحتى اللبنانيين، من فضلات بعد تمضيتهم أوقاتاً “جميلة” هناك.
وعندما قرّرت العائلة الابتعاد بضعة أمتار للوصول الى مساحة مخصّصة للسباحة والجلوس في مكان أنظف، لاحقهم الأمن الخاص بالمسبح المجاور لأنه لا يعرف أنّ الشاطئ ملك للجميع وأنّ القانون اللبناني يمنح حق الدخول المجاني والحرّ الى الشواطئ لجميع المواطنين.
وبذلك تكون المنتجعات تخالف القانون وتحديداً المرسوم 4810 الصادر عام 1966، والذي جعل من الواجهة البحرية ملكاً خاصاً للعموم. وبالتالي، وفي ظلّ ما تشهده شواطئنا، فإنّ معظم المنتجعات السياحية المنتشرة تخالف القانون اللبناني.
علماً أنّ هناك من لا يملك ترخيصاً للاستثمار، فيما يتجاوز آخر المساحات المرخّصة له، أمّا البعض الآخر فقد ردَم البحر وأنشأ مساحات عشوائية للمنفعة الشخصية، وثمّة من لا يدفع رسوماً أو يفعل بنسَب متدنية جداً مقارنة مع قيمة العقارات والأرباح التي يجنيها.
في وقت يُعتبر السماح بتخصيص جزء من الشاطئ لاستعمال افراد او مجموعات عملاً استثنائياً يمكن تطبيقه في حالات خاصة تخضع لأسس معينة على غرار ألّا يشكّل الاستثمار المطلوب عائقاً لوحدة الشاطئ في حال وجود مساحات يتوجّب ابقاؤها مفتوحة للعموم. كما أنه لا يسمح بإنشاءات دائمة على الاملاك العامة البحرية سوى ما يعود منها للتجهيزات الرياضية والتنظيمية وملحقات الإنشاءات وغيرها…
وفي السياق، أوضح الأمين العام لاتحاد المؤسسات السياحية البحرية جان بيروتي لـ”الجمهورية”، أنّ “الاسعار لم تشهد أيّ ارتفاع نسبةً للسنة الماضية، وتعتمد وزارتا السياحة والاقتصاد مراقبة الأسعار بجدّية والتصديق عليها قبل اعتمادها في المسابح الخاصة”. ونفى أن تكون الأسعار خيالية، مؤكداً أنّ “رسوم الدخول لم ترتفع منذ 3 سنوات، حتّى أنّ عروضاً كثيرة تصل الى حدّ الـ50 في المئة في مناسبة رمضان”.
وفيما يخصّ الشواطئ العمومية، جزم بيروتي أن “لا شواطئ عمومية في لبنان، وأنّ الميزانية غير متوافرة في وزارة الأشغال والنقل لتأمين واستحداث شواطئ للعموم، ونحن كنقابة مستعدون للمساهمة في تأمين التجهيزات اللازمة في هذا الموضوع”.
وأضاف: “تمّ استحداث 8 مسابح عامة على طول الشاطئ اللبناني، لكن لم يستكمل العمل فيها، بسبب حاجتها للتجهيزات اللازمة والمراقبة وتأمين السلامة العامة والخدمات في ظل غياب الميزانية”.
ونَوّه بيروتي بأنّ “أشغال المسابح الخاصة ممتدة على الشواطئ العامة مقابل ممتلكاتها، ولكنّ الدولة لديها خطة في هذا الخصوص، وتنتظر الميزانية لمباشرة العمل”.
ووعد اللبنانيين “بتوفير مسابح عامة محترمة عند تأمين الميزانية”، لافتاً إلى أنّ “الموسم السياحي تأخّر نسبياً هذه السنة بسبب شهر رمضان”، متمنياً أنّ “يكون هناك اسقرار أمني وسياسي لينعم اللبنانيون بصيف جميل”.
«البحر الأبيض المتوسّخ»
بعد التزام العائلة المساحة التي حدّدها لهم رجال الامن، هَرول الاولاد نحو المياه، ليتوقفوا عند سماع صراخ والدهم بعدما رأى القذارة والاوساخ تغمر البحر.
وفي السياق، يُعبّر أحد الغطّاسين لـ”الجمهورية” عن اشمئزازه من رؤية الاوساخ التي تزيد من سنة الى أخرى، في عمق البحر. إذ، وبعدما كان يستهويه الغوص في عمق البحر لاستكشاف جماله وتصوير تفاصيله لم يعد باستطاعته ممارسة هذه الهواية، ويقول: “من المفترض ان تكون الرؤية واضحة وأن تميل الى اللون الازرق الفاتح بدءاً من عمق 0 وحتى 25 متراً، وأن نرى بوضوح الكائنات الحية، وتحت الـ25 متراً تخف الرؤيا فيصبح اللون ازرق غامقاً وبعدها اسود، لكننا اليوم وما إن ننزل في المياه حتى يتحوّل اللون الى اخضر حاجباً معه الرؤية الواضحة جرّاء التلوّث.
لكنّ اخضرار المياه لا يمنع من رؤية براميل السوكلين، دواليب السيارات والشاحنات، “الحفاضات” وبقايا الحيوانات، بالإضافة الى المازوت ورواسب البواخر التي يمكن أن تراها في ضبية، وجبال النفايات في طبرجا والبوار”.
مياه بحرنا ملوثة تلوثاً كيميائياً وبيولوجياً، وتحوي كائنات حية مرئية وغير مرئية بالعين المجردة، وينتج هذا التلوث عن اختلاط فضلات الانسان والحيوان بالماء بطريقة مباشرة او من خلال اختلاطها بماء الصرف الصحي او الزراعي، بالاضافة الى تلوث الأنهر في غياب محطات التكرير، والمجارير التي يصبّ 90 في المئة منها في البحر من دون معالجة.
الفاتورة الصحية
وتشير اختصاصية الامراض الداخلية والطب الشرعي الدكتور باسكال أبو سليمان الى أنّ “مشكلة تلوث مياه البحر تفاقمت بعد أزمة النفايات ورميها في البحر من دون معالجة، وتشير الدراسات المعلنة بعد أخذ عيّنات من مختلف ينابيع لبنان، مثل الليطاني وبيروت ونهر الكلب وغزير، الى أنّ مياهنا تحوي معادن ثقيلة كالرصاص والزئبق وغيرهما، بالإضافة الى دخول الغازات الى المياه جرّاء حرق النفايات، كما أنّ لبنان بوجود كل هذا التلوث تخطّى نسبة الميكروبات المسموح بها عالمياً”.
وفي ضوء هذه المعلومات نستنتج أنّ كلفة الاستمتاع على البحر تتخطى كلفة المنتجعات وذلك لأنّ الانسان يدفع هنا من صحته، خصوصاً أنّ عدداً من الجامعات أجرى دراسات لم تعلن بعد وأظهرت نتائجها أنّ مياهنا تحوي أموراً “مخيفة”.
وتحذّر أبو سليمان من “الفاتورة” الصحية التي يدفعها المواطن اللبناني بعد السباحة في البحر، فتوضِح: “نتعرض للأمراض الجلدية، ولأمراض مزمنة، كما أنّ هذه المياه التي يبتلعها احياناً الأطفال، تؤثّر في ذكائهم بالاضافة الى الامراض المتناقلة مائياً والتي تعرف بالـ “Waterborne Diseases” مثل التيفوئيد، التهاب الكبد الفيروسي، الإلتهاب الرئوي الحاد”.
كل هذه المعلومات “بتشَوِّب”، لدرجة أنها تُشعر المرء بضرورة “أن يغطس”، ولكن طبعاً ليس في بحر للعموم، ولا في المسابح الخاصة لأنّ الموضوع مُكلف. من هنا عليك يا عزيزي اللبناني أن تتحمّل الحرارة المرتفعة “أحسن لصحتك ولجيبتَك”.
من حق كل مواطن لبناني أن يستفيد من مياه بحره وهو لا يتذمّر فقط من الاسعار الخيالية للمسابح، إذ إنّ الكثير منّا يتمنى أن يقصد شاطئاً للعموم، وأن يسبح بعيداً عن النفايات والامراض.
عسى ان تتحمّل الدولة مسؤوليتها وتؤمّن المسابح المجانية وتحارب الفساد في الاملاك البحرية وتنتبه إلى البيئة، لكي لا يكون خيار اللبنانيين إمّا حرق المال في المنتجعات الخاصة أو ارتياد البحر والسباحة مع “أكياس النايلون”.