لم تتأخر نافذة التفاؤل التي فتحها انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية في الانسداد. لم يطل أمد التفاؤل بقرب الخروج من عنق الزجاجة الدستورية والسياسية التي اعقبت انتهاء ولاية الرئيس السابق وبدء مرحلة الفراغ.
ها هو الفراغ ذاته يطل برأسه من جديد ليؤكد للبنانيين الذين اعتقدوا بإمكان إنجاز الاستحقاقات الماثلة أمامهم، من تبني قانون للانتخابات النيابية وإقرار موازنة عامة للمرة الأولى منذ اكثر من عشر سنوات وإطلاق عجلة العمل في ادارات الدولة وانعاش الاقتصاد المختنق، ليؤكد لهم ان الحائط الصخري ما زال هو الأفق الوحيد الذي يشكل مشهد نهاية نفقهم الطويل.
التحفظات والتحذيرات التي صدرت في ايام التفاؤل التي رافقت موافقة «تيار المستقبل» على انتخاب ميشال عون، والقائلة بلا واقعية الرهان على لحظة انفراج والبناء عليها في مناخ اقليمي ودولي متفجر، ظهر انها في مكانها تماماً. وانتبه الباحثون عن حلول لمشكلاتهم الآنية في تنازل لمعسكر «حزب الله» ومرشحه عون الى ان المطلوب منهم هو الإلغاء الذاتي أو القبول بالانكماش الى اقل مما يعتقدونه من حجم سياسي وتمثيلي.
ومرة اضافية، نكتشف في لبنان ان العلاقة بين الاقتصاد والسياسة ليست في اتجاه واحد، وأن الأول لا يصوغ الثانية آلياً ولا يتحكم بها. وأن الاتفاق السريع، بل المريب في سرعته، على تقاسم المربعات النفطية في المياه الإقليمية والذي أقر في الجلسة الأولى لمجلس وزراء العهد الجديد، لم يعكس النوايا الحقيقية لأطراف تصنف نفسها منتصرة في الصراع الإقليمي من سورية الى العراق فاليمن، ولا تعتزم فك ارتباط لبنان بأزمات المنطقة بل تريد الحفاظ على سمته الوظيفية. التصعيد الأخير في التهديدات لا يحتاج حصافة لتفسيره.
عليه، يبدو قانون الانتخاب المرجو بعيد المنال، وتزداد محاولات جسر الهوة في الرؤى حول الموازنة العامة فيما بدأت التحركات النقابية والمطلبية تعود الى الشارع. أما قوى الاعتراض المدني والسياسي فتبدو أكثر من اي وقت مضى مروّضة ومدجنة وتحت جناح القوى الطائفية صاحبة السطوة التي لا ينازعها منازع على الحياة العامة.
التهويل بوقوع الفراغ النيابي اذا لم يجر الاتفاق على قانون انتخابات «عصري وعادل» (وهاتان صفتان تتعدد تأويلاتهما وتفسيراتهما بعدد الجهات المنادية بهما)، يدعو الى السخرية. ذلك ان الهيئة التشريعية اللبنانية في حكم المعطلة، بتوافق عموم القوى النافذة، منذ اعوام طويلة. يضاف الى ذلك ان التهويل يفترض ان يهدد بحصول أمر جلل، في حين ان الفراغ قائم بحيث لا يزيد الأداء السياسي والإداري لمؤسسات الدولة عن التسيير اليومي وإدارة الأزمة البنيوية التي تتفاعل وتتفاقم، من دون اي رؤية او تصور لكيفية الخروج منها باستثناء تعزيز الشراكة في ادوات الفساد والسطو السافر والمقنع على المال العام.
ولا شيء مفاجئاً في استعادة الحكمة القائلة ان المواطن اللبناني لن ينجرّ الى «صغائر» من نوع المطالبة بتنفيذ السلطة واجباتها التي يدفع الأول ثمنها ضرائب ورسوماً وإتاوات مختلفة، وأنه مطمئن الى أن القيادة الحكيمة في طائفته لن تترك حقوقها سائبة ولن تقف كالأيتام على مائدة اللئام.
ولا شيء مفاجئاً ايضاً في ان يروج البعض للتفاؤل فيما يعرف قبل غيره استحالة تحقيق أي اصلاح في لبنان من دون تفكيك كامل البنية الطائفية – المافيوية الحاكمة. وهو ما لا قِبل لأحد به في الأمد المنظور.