Site icon IMLebanon

خمسون سنة نقلت اللبنانيين من الجنّة إلى النار

 

إلى السبعينات درّ… التقدّم إلى الوراء

 

كان يا ما كان، كان في بلد اسمه لبنان، صنّفوه في الستينات على انه رابع اكثر الدول ازدهاراً في العالم. وجاءت بداية السبعينات لتتوج مسيرة الإزدهار وتجعل من لبنان مضرب مثل في التقدم والرخاء ورغد العيش. حينها كان لبنان ماسة مشعة تبهر بوهجها الشرق والغرب و تعمي الأبصار عن شوائب وتصدّعات تنخرها من الداخل. كان اللبنانيون يعيشون الوهج بكل جلاله ويشعرون بلسعاته أحياناً ولكنهم لم يستشعروا يوماً أنهم بعد سنوات قليلة سيكتوون بناره وبعد خمسين سنة سيرتمون معه في نار جهنم.

 

بين لبنان السبعينات ولبنان اليوم خمسة عقود من الوجع والصمود والتشبث بالحياة… فالانزلاق نحو الهاوية. لبنان اليوم يخشى حاضره وغده ويعود الى ذاكرته يستقي منها أيام عز كانت. من أرشيف صيف 1971 حاولنا رسم صورة لتلك الأيام علّ حلاوة الماضي تخفف من علقم الحاضر وتشكل حافزاً للتقدم الى الوراء، فالى السبعينات در…

 

حينها كانت 4800 عائلة من لبنان تملك براد “عصر الفضاء” براد “فريجيدير” الأصلي وفق الإعلان المنشور في الصحف وكان يتم تقديم براد “أندسيت” أو “وستنغهاوس” هدية مع شراء غرفة سفرة وصالون وغرفة نوم ستيل. اليوم قد تملك اعداد أكبر من العائلات برادات مختلفة التسميات والماركات لكنها برادات فارغة لا تجد ما يملأها أما الهدايا المجانية فصارت من الماضي ولم يعد من شيء مجاني إلا الإعاشات التي توزع على العائلات التي انحدرت الى ما دون دون خط الفقر.

 

وكان في إمكان الطلاب حينها والموظفين التنعّم بالعروضات الخاصة على السيارات الفخمة الجميلة والسريعة مثل موريس GT1300 بأفضل الشروط مع تأمين مجاني ضد كل الأخطار وخدمة مجانية لستة اشهر… حتى السفر كان متاحاً بتعرفة مخفضة للطلاب تقدمها شركة طيران الشرق الأوسط لتتيح لهم الاستمتاع بعطلة ممتعة في اوروبا بدءاً من 65,50 ليرة الى أنقرة وصولاً الى 488 ليرة الى فيينا وزوريخ واقل منها بقليل الى روما و باريس!!! وكانت الرحلات البحرية السياحية تسيّر الى مصر على متن باخرة أوزونيا أسبيريا الفخمة، تنطلق من مرفأ بيروت حين كان لا يزال منارة الشرق، والرحلات البرية تنطلق بالبولمان من بيروت نحو فارنا باسعار لا تتجاوز 110 ليرات.

 

ثقافياً كان لبنان يهوى الشعر وينشر القصائد على اسطوانات تباع مثل اسطوانات فيروز وصباح وعبد الحليم في جميع المكتبات وحينها كانت قصائد “خافوا على العار” للشاعر عمر ابو ريشة في ذكرى الأخطل الصغير تطبع في نسخة ثانية على اسطوانتين صغيرتين من إصدار دار النهار للنشر، موسيقياً كانت الأوركسترا الوطنية تعزف للمرة الأولى مؤلفات سمفونية لبنانية برعاية وزير التربية ويتجاوب معها الجمهور بشكل كبير بعد ان اعتاد سماع السمفونيات الغربية فقط. وكان مهرجان “وودستوك بيروت الدولي” للموسيقى الغربية حدثاً مميزاً على غرار النسخة البريطانية منه وعمل المشرفون عليه على إشراك فرق لبنانية تعزف من تأليفها قطعاً موسيقية غربية ليثبتوا للعالم اجمع ان في لبنان موسيقيين احسن من الأوروبيين أنفسهم وفق قول برنار اسطا رئيس نقابة االموسيقى الغربية في لبنان. حينها كانت النقابات الفنية لا تزال تعنى بالفن ولم تدخل زواريب السياسة بعد.

 

سينما ورقابة وتسامح وثقافة

 

منذ خمسين عاماً كانت المدارس تقيم مهرجانات ولقاءات حول السينما العالمية يتم خلالها عرض أفلام قصيرة او طويلة من ارجاء العالم تتم مناقشتها في ما بعد على طريقة cine club بحضور بعض مخرجيها وتخصص أسعاراً خاصة للطلاب او حتى للراغبين في المكوث في حرم المدرسة طوال فترة اللقاء مع تأمين مأكل ومنامة الى جانب حضورالعروض كما حدث في اللقاء السينمائي في مدرسة الشانفيل الذي امتد لستة ايام في حزيران 1971. وكانت صالات السينما الكثيرة في بيروت والحمرا تعج بالعروض الأولى لأفلام عالمية وعربية جديدة حتى ان بعض الصالات كان يعرض فيلماً مختلفاً يومياً دلالة على المركز الذي كانت تحتله السينما في حياة اللبنانيين في ذلك الوقت. لكن هذا لم يمنع الرقابة من منع عرض بعض الأفلام او حتى من تغريم 12 طالباً في معهد الفنون في الجامعة اللبنانية بمبلغ 100 ليرة لأنهم كانوا يقدمون مسرحية “يوم الدينونة” وهم شبه عراة…

 

وإن احتلت الثقافة التي يكاد دورها يتلاشى اليوم حيزاً كبيراً في نشاطات المؤسسات التعليمية في زمن العز ذاك، فالتسامح الديني وقبول الآخر كان لا يزال عائماً على السطح لم يكشف ما يخفيه تحته بعد، يومها قامت مدرسة الجمهور الكاثوليكية العريقة باسم رئيسها الأب دلمه بالطلب الى أولياء التلامذة المسلمين ان يساهموا معهم في “توفير التنشئة الدينية لأولادهم في سبيل تنمية إيمان شخصي نابض فيهم ضمن إطار المجتمع المدرسي ذاته… وتشجيع انفتاح التلاميذ على تعرف بعضهم الى دين بعض والتركيز على نقاط الالتقاء بين الأديان” !!! هذا كان بالإمس…

 

عرش السياحة والجمال

 

سياحياً كان لبنان يعيش ايام مجده في أوائل السبعينات ويتربع على عرش الجمال الكوني ويرفع اسمه على كل شفة ولسان مع انتخاب جورجينا رزق ملكة جمال الكون. يومها ارتبط اسم لبنان بالجمال والانفتاح والحياة العصرية واجتمع اللبنانيون بكل اطيافهم (وطوائفهم) لاستقبال الملكة قبل أن ينشغلوا في ما بعد بالتقاتل على جنس الملائكة ويعود اسم لبنان لينتشر في العالم بسبب حربه الأهلية الشرسة…

 

وفي صيف 1971ا كان خمسون دراجاً ينطلقون من بروكسل الى بيروت ويقطعون 4165 كيلومتراً ويعبرون تسع دول وهم يرتدون قمصاناً تحمل اسم لبنان. وكانت سلسلة فنادق “الـهوليداي إن” تطلق مشروعها الضخم في بيروت الذي كان مقدراً له ان يكون بحسب مديره “همزة وصل بين جبل طارق، واثينا والجزر اليونانية وروما ومالاغا وإسبانيا” مستفيداً من طاقة لبنان السياحية التي توفرها إمكاناته الطبيعية الهائلة ومناخه وموقعه. وكانت بحمدون مصيف العرب تبيع أراضيها المفروزة وتبني مشاريع سكنية فيها فيلات نموذجية حديثة تتناسب مع حاجة المصطاف… وكانت وزارة السياحة بالتعاون مع قوى الأمن الداخلي تسيّر دوريات باللباس المدني في شارع الحمرا لمكافحة أعمال التحرش بالفتيات اللواتي يرتدين “الشورت”، وكانت “سبورت كولا” ترقّص بيروت وتقيم حفلات موسيقية اسبوعية في الهواء الطلق ترويجاً لمنتجها الجديد. وكان “السان بلاش” ملاذاً للبنانيين في ايام الحرّ على الرغم من التحذيرات من خطر الموت القابع في تيارات شاطئ الرملة البيضاء…

 

يومها كانت ينابيع لبنان لا تزال صحية لم تلوثها بعد المرامل والنفايات الكيماوية والعضوية وكانت تلك الينابيع الصحية “تضارع” المياه الأوروبية وتحظى باهتمام ليس الصناعيين فحسب بل المفكرين والرؤيويين بحيث منح سعيد عقل جائزته لشهر أيار 1971للصناعي كلود زغزغي الذي صنّع وصدّر لأول مرة في التاريخ مياه لبنان الصحية بحيث وصلت عين من لبنان وُضبت مياهها بطريقة عصرية الى أكثر من عشرين بلداً في العالم.

 

وكان العميد ريمون إده بالتوافق مع قائمقام جبيل ورئيس بلدية المدينة يعدون مشروعاً سياحياً شاملاً لجبيل يجعل منها ” سان تروبيز لبنان” خصص له رئيس الجمهورية مبلغ 250000 ليرة، وقد يكون المشروع السياحي الوحيد الذي طبقت دراساته ولو بعد عقود…

 

السياحة والاصطياف كانا مصدر دخل الدولة اللبنانية الأول وكان الحرص على موسم الصيف و الاصطياف من الأولويات التي تضع كل الخلافات جانباً. واعتبر الرئيس فرنجية يومها صيف 1971 “موسم اختبار” يبني على اساسه استراتيجية سياحية بعيدة المدى تؤمن التنمية السياحية المطلوبة. حتى ان الدولة قامت بحملات واسعة طالت مناطق بريتال وطرابلس للقبض على المطلوبين وتثبيت الأمن قبل موسم الاصطياف.

 

هو العز كان يعيش فيه اللبناني من دون أن يدرك قيمته…

 

مكانك راوح

 

وإن كانت السياحة، والثقافة والفن وراحة البال ميزات طبعت حياة لبنان في بداية السبعينات وجعلت العودة الى تلك الحقبة حلماً يدغدغ مخيلة كل لبناني اليوم، فإن المهاترات السياسية والخلافات بين الرؤساء والزعماء وفساد الإدارة وجشع المحتكرين وغلاء الأسعار وغبن العمال كلها مشاكل لا تزال هي هي بعد خمسين عاماً لا بل تتفاقم وتسير نحو درك اسفل.

 

في مطلع السبعينات ومع انتخاب الرئيس سليمان فرنجية كلف صائب سلام بتولي رئاسة الحكومة وكانت الأوضاع المعيشية الضاغطة من غلاء وفساد واحتكار وتسيّب امني في بعض المناطق وانتفاء فرص العمل امام الشباب تتطلب حكومة قوية تكون قادرة على النهوض بالبلد ومواجهة التحديات الاقتصادية والسياسية والامنية التي تتربص به. حينها كان الرئيس فرنجية يقول إن عهده “إما يكون عهد القانون والنظام أو لا يكون عهداً في تاريخ لبنان” أما صائب سلام فأطلق مقولته الشهيرة “الثورة من فوق لا تنفع إذا لم يتبعها عمل جاد يمنع الثورة من تحت” وكأنه كان يعلم حينها بمجيء من يطالب بعد خمسين عاماً “بشطف الدرج من فوق الى تحت ” ولكن بدون ان تتوافر المياه للشطف…

 

وكثرت المطالب بشأن الحكومة وتصاعد الجدل بين الكتل النيابية ومنهم من ارادها من الأقطاب فيما طالب آخرون بحكومة لون واحد وغيرهم بحكومة اتحاد وطني وكاد سلام نتيجة هذا اللغط يعلن اعتذاره بعد ان اقترح على الرئيس فرنجية واحداً من حلين إما حكومة “إكسترا برلمانية” او حكومة أقطاب مصغرة تشرف على الانتخابات النيابية القادمة… لكن عدم الاتفاق على صيغة واضحة دفع بالرئيس المكلف الى حسم امره فجأة واعلن حكومة من خارج المجلس تألفت إضافة إليه من 11 وزيراً استقال منها إدوار صوما لتصبح من عشرة وزراء معظمهم من الشباب بحيث أطلق عليها اسم ” حكومة الشباب” فيما أطلقت صحيفة النهار عليها اسم ” حكومة المجهولين”. وكان الرئيس صائب سلام قبل تشكيل الحكومة قد أعرب عن رغبته بإشراك الشباب في الحكم.

 

سقوط حكومة الاختصاصيين!

 

حكومة الشباب هذه وما اشبهها بحكومة الاختصاصيين المنتظرة التي تطالب بها المبادرة الفرنسية، لم تنجح على الرغم من حسن نيتها وكفاءة وزرائها بمواجهة غول الفساد الإداري المستشري، ولم تحتج الأمور الى أكثر من ستة اشهر ليصطدم المنطق الإصلاحي بالمنطق التقليدي فاستقال منها وزيران بعد ان وجدا أنهما غير قادرين على الاتيان بالإصلاح المطلوب. وكان النائب فريد جبران قد تساءل في جلسة الثقة إذا ما كان بإمكان “نظام مهترئ يقوم على الرشوة وعلى الفساد وعلى السرقات والاحتكارات والاستغلال بأبشع صوره أن يقوم بثورة؟”

 

وانقسم أصدقاء القصر وفق جريدة “النهار” الى قسمين قسم طالب بذهابها لأنها تأخذ من رصيد العهد وطالب بتشكيل حكومة برلمانية، وقسم كان مع إبقائها إذ إنه من غير المناسب فتح أزمة وزارية مع بدء موسم الاصطياف. وكان الفريق الأول يتهم الثاني بأنه يهدف من إبقاء الحكومة الى إضعاف الرئيس سلام واستهلاك رصيده السياسي لمنعه من العودة الى السراي على رأس حكومة جديدة قادرة بعد ان تكون حكومته الأولى قد اثبتت فشلها… واستمر الجدل إلى أن كتب لحكومة الشباب عمر جديد بعد لقاء في السعديات ضم شمعون وسلام والخليل صرح على أثره الرئيس شمعون ان الحكومة يمكن أن تبقى حتى ايلول “ولشو العجلة؟” فانتعش الوزراء وتغنوا بما تحقق ووعدوا بالمزيد بعد خروجهم من عباءة التواضع…

 

وقامت حكومة الشباب حينها بمهام عدة وأبرزها مكافحة الاحتكار وحصلت مواجهة بين وزير الصحة د. إميل بيطار وبين مستوردي الأدوية ومن ثم الصيادلة من أجل تخفيض سعرالأدوية الأساسية ورفع الرسوم على بعض ما اعتبر كماليات في صورة شبيهة بما يحدث اليوم… وعمدت الحكومة على تشكيل لجنة للبحث بمطالب اصحاب الأفران التي ما زال معظمها على حاله حتى اليوم ودرست مطالب عمال المصارف المضربين وعمال الهاتف والتحويل واصدرت تشكيلات إدارية من خارج الإدارة جوبهت باعتراضات شديدة من داخل هذه الأخيرة…

ابن العهد معارض

 

في خضم هذا التجاذب السياسي بين الموالين للحكومة والمعارضين لها شن النائب طوني فرنجية ابن رئيس الجمهورية في حزيران أشرس حملة على الفساد الإداري مناشداً الرئيس فرنجية ان يفقد صبره. يومها كان الابن حريصاً على العهد ولا يفكر بعد بالوراثة السياسية وقال في حديث للنهار: “كل شيء في لبنان متعلق بالإدارة والإدارة مجموعة دكاكين… الموظفون 40 الفاً يمكن الاستغناء عن 35 الفاً منهم. 90% من المدرسين يعملون لمجرد كسب الرزق ويفتعلون الإضرابات ليرتاحوا من الشغل، والمطلوب من الحكم ثورة حقيقية على الفساد تبدأ من فوق لتحت” ثورة نادى بها طوني فرنجية حقيقية شجاعة مخلصة صادقة بناءة تقطع دابر فساد النصوص والنفوس” ولم يعد جائزاً حسب قول فرنجية في أواخر القرن العشرين أن تظل القوانين العثمانية والعقلية العثمانية سارية نصب أعين المسؤولين. ولم يكن النائب فرنجية يعرف أن حفيده سيتولى منصباً نيابياً في مطلع الألفية الثالثة في مجلس لا تزال القوانين العثمانية ذاتها تتحكم به… ويدور في حلقة المشاكل السياسية والاقتصادية والإدارية المفرغة ذاتها.

 

 

ففي تلك الفترة طالب العميد إده بتأليف لجنة برلمانية لتطّلع على الواقع في مزارع شبعا لجهة الطرق التي يقال ان الجانب الإسرائيلي شقها في المنطقة ونفي هذا الأخير بأن يكون هناك أراض لبنانية تحتلها إسرائيل. وكان على اللجنة ان تطّلع على وضع مزارع شبعا التي كانت موضع خلاف في الماضي بين لبنان وإسرائيل… وفي الفترة ذاتها إدعت مصادر اسرائيلية أن الفدائيين ضربوا من لبنان سيارة في الجليل. وكأن الأسماء وحدها تغيرت بين الأمس واليوم… أما مالياً فالأمر اللافت الذي يعنينا في السنة2021 كما كان يعني اللبنانيين منذ خمسين سنة فهو اقتراح تعديل قانون النقد والتسليف وإعادة النظر في الصلاحيات الواسعة التي يعطيها لحاكم مصرف لبنان لانه ليست هناك دولة في العالم يملك فيها حاكم المصرف المركزي الصلاحيات التي يملكها في لبنان… ولا يزال البحث جارياً… ولمن يقول انه شبع اليوم من حرب البيانات بين التيارات فليعد الى الهجاء الذي هجا به رشيد كرامي الرئيس صائب سلام حين قال رداً على شكوى اتته من الممثل الطرابلسي ابو الشباب: ” أبعد أبو الشباب عن تلفزيون لبنان ليحل محله شيخ الشباب” قاصداً بذلك الرئيس الذي تغنى بحكومته الشبابية في حين ان شفرة الحلاقة كانت بخمسة قروش وصارت بعشرة والخسة بعشرة صارت بأربعين… ومنذ ذلك الوقت حتى اليوم لا يزال المواطن المقهور يترقب نتائج اليانصيب الوطني كل خميس علّ ورقة الحظ تنقذه من حظه المشؤوم في العيش في بلد دائم النكبات…