الإعتذار مؤجّل والخيارات معدومة.. بإستثناء المزيد من الإنهيار والإفلاس
كيف يمكن تفسير أن أحزاب السلطة، الحاكمة والقابضة على خناق المؤسسات والخدمات والمال والمساعدات والقطاعات والنقابات، وبكافة زعمائها ووجوهها وأدواتها وأبواقها، تعلن الإضراب وتطالب بتشكيل حكومة؟ هل يكفي القول ببساطة أن هذه المنظومة تستسيغ وصمها بالفجور والوقاحة واستغباء الشعب والخارج؟ أم أن للإضراب الفاشل والهزلي رسالة أخرى ضدّ قوى الهيمنة الإيرانية التي تمنع فعلاً تشكيل حكومة بانتظار ترتيب أوراقها في فيينا بعد انتهائها من استحقاق انتخابات الرئاسة؟
بانتظار البنزين الإيراني
في انتظار المجهول – الأسوأ، وفي وقت يبدو تعايش الشعب (بشكل مَرَضي) مع ظاهرة الطوابير وفقدان السلع والإذلال متعدّد الوجوه مثيراً للاستغراب، يزداد المشهد السياسي قتامة وكاريكاتورية وعبثيّة. وزير الطاقة، سليل وزراء الفشل المريع في إدارة هذا القطاع، يخيّر الشعب بين الرضوخ لسعر صفيحة البنزين بمئتي ألف ليرة أو البحث عن «شيء ثانٍ» بديلاً عن استخدام السيارات؟ طبعاً زملاؤه في حكومة الفشل ليسوا أَحذَقَ منه لذلك اختاروا منذ زمن الغياب عن مشهد التعليق على الأحداث، وتخلوا، طوعاً، عن مسؤولياتهم. يقال أن منهم من ينصرف لمتابعة مهنته القديمة «التهريب»، ومنهم من يسعى لفرصة عمل خارج البلد، ومنهم الثرثار الذي ابتعد قناعة بأنه ختم حياته العامة بتجربة فشل لا مثيل لها.
أيضاً وأيضاً، وبانتظار وصول البنزين الإيراني الموعود، ثمّة أمر ملفت متصل بجرائم التهريب المستمر. لم تبق وسيلة إعلامية، أو ناشطون، أو مؤسسات مدنية تهتم بالرقابة، أو شهادات شهود العيان.. لم يبق أحد في الجمهورية إلا ورفع الصوت من وقاحة ما يجري على الحدود.. الأفلام التسجيلية التي توثّق فضائح قوافل صهاريج سرقة محروقات الشعب اللبناني، المدعومة من أمواله، من دون أن يتحرك أحد تثير الاستغراب!! بقي فقط، وفقط لا غير، أن يخرج المهرّبون أنفسهم بمؤتمر صحافي مباشرة على الهواء يعلنون فيه عن أنفسهم، ومن يسهّل، ومن يدعم، ومن يغطّي جرائمهم، ويناشدون الدولة، وأجهزتها العسكرية والأمنية والقضائية، التحرك لوقف هذه المهزلة؟! وهذا لن يحصل طالما بقي دولار واحد في مغارة رياض سلامة.
«لا مناصَ من القول بأن «حزب الله» يتحمَّل جزءاً كبيراً مما أصاب ويصيب لبنان، والمطلوب، ولو لمرّة واحدة، خطوة تصبّ في مصلحة البلد وأهله
لا حكومة ولا اعتذار!
في المقابل، هناك من يجزم بأن اعتذار الرئيس المكلّف تشكيل الحكومة سعد الحريري آتٍ لا محالة، وثمة من يعترف بصعوبة التشكيل لكنه ينتظر خرقاً ما يبدو أنه صعب وغير متوفر حالياً، فالتنافر بين رئيس الجمهورية وصهره من جهة والرئيس سعد الحريري قائم، والعلاقات سيئة، في مقابل تمسّك الثنائي الشيعي بالحريري! وهذا ما ترجمته بيانات الردّ والردّ المضاد على أكثر من جبهة.. وفي الخلاصة لا حكومة.. لكن خلاصة الأمر أن البلد متروك للعبث والضياع والهلاك!
هل من خيارات غير الاعتذار الذي يبدو أنه مؤجلٌ حالياً؟ يمكن تقدير عدّة خيارات – افتراضات، منها:
أولاً: تخلي «حزب الله» عن دور التعطيل من وراء ستار، أو وقف تغطية الرئيس عون وصهره في استنزاف البلد كرمى لحسابات باسيل الشخصية… لا مناص من القول بأن «حزب الله» يتحمّل اليوم وأمس وغداً جزءاً كبيراً مما أصاب ويصيب لبنان، والمطلوب، ولو لمرّة واحدة، خطوة تصبّ في مصلحة البلد وأهله وليس حساباته الخاصة أو الإقليمية. إن كلام باسيل أمس لا يعدو كونه «غنج» على الحزب وأمينه العام، وتذاكي في غير محلّه على اللبنانيين.
ثانياً: الذهاب نحو تسوية بين بعبدا وبيت الوسط، وبعبدا وعين التينة، وهي شبه مستحيلة حتى الآن للأسباب التي باتت معروفة وواضحة.
ثالثاً: غياب الضغط الخارجي المقترن بعصا الترهيب بوجه معرقلي تأليف حكومة إنقاذ تباشر عملية الإصلاح، يزيد من عبثيّة المشهد.. فلحسابات غير مفهومة لا يزال المجتمع الدولي يُمعن بمنح المنظومة الفاسدة أسباب البقاء، وهي التي لطالما باعته الأكاذيب، وتنكّرت لالتزاماتها أمامه، وأفشلت مبادراته الإنقاذية.. والأهم أن أطراف هذه المنظومة نهبت أموال المساعدات الغربية التي هي أموال دافعي ضرائب! إن إمعان الطبقة السياسيّة بالاستخفاف بالأسرة الدولية والفجور والفساد يعزّز من الرأي القائل بأن هؤلاء، وهم محترفو مقامرة، يهدفون من وراء تجويع الشعب وتعطيل الحلول، إلى وضع القوى المؤثرة بين خيارين: منح شرعية لإعادة إنتاج ذات الطبقة السياسية بعدما جرّدتها الثورة من كل شرعية أو مصداقيّة، أو إدخال لبنان في دوامة الاستنزاف واللعب بالاستقرار الأمني والاجتماعي وصولاً إلى تحويله بؤرة تؤثر سلباً على الأمن الإقليمي، بهذا المعنى على أشقاء وأصدقاء لبنان الاقتناع بأن مصلحتهم ومصلحة السلام الإقليمي والدولي، تتلاقى مع استقرار وسلامة هذا البلد.
رابعاً: مع الأهمية الكبرى للقاء روما المرتقب بين قداسة البابا فرنسيس ورؤساء الطوائف المسيحية الشهر المقبل، إلا أن مفاعيله المتوقعة لن تصب بالضرورة في المسألة الحكوميّة، بل تتصل بعناوين أخرى متعلقة بلبنان القضيّة، ولهذا الحَدَث المهم ومفاعيله كلام آخر.
خامساً: من الاحتمالات الواردة، أن تبقى الأمور كما هي عليه الآن إلى حين جلاء الموقف في فيينا، أي استعراضات، حروب كلاميّة، مقامرة بمصالح الناس وما بقي من قوت بين أيديهم، وترك البلد سائباً أمام الكارتيلات والمافيات.
سادساً، وهو الأهم: إقدام الرئيس عون على خطوة الإستقالة لفتح الباب أمام الحلول وتخليص البلد من شرور هذا العهد، وتشجيع الآخرين، أو الضغط عليهم ربما، لتقليده بذات الخطوة.. إن ذهاب عون إلى هذا الخيار، مع أنه مستبعد، يحوّلها إلى خطوة تاريخيّة، تساهم في محو ما علّق وسيعلق بأذهان اللبنانيين لعقود من مآسي الانهيار الكبير، والإفلاس، والجوع، والنهب، والتضييق على الحريات، وعزل لبنان، واستباحة سيادته، وتهميش القضاء، وتدمير بيروت.. في ظل عهدٍ كان راعيه الأول السلاح الخارج عن الشرعية لا الدستور.
أين الثورة؟
يبدو الخروج من المأزق الراهن شبهَ مستحيل، أقلّه في ظلّ هذه المنظومة غير المؤهّلة لتولي ورشة الإصلاح أو إرسال إشارات الثقة للمجتمعين العربي والدولي أو محاورة صندوق النقد، وبهذا المعنى على اللبنانيين تحضير أنفسهم لمزيد من البؤس وفلتان الأسعار وانهيار قيمة العملة، لكنّ ذلك يرتّب على القوى المجتمعيّة الحيّة مسؤولية الانتقال بالاعتراض إلى مستويات جديدة، واقعيةً وعلميّةً، إلى المقاومة المدنيّة المسؤولة، والكفّ سريعاً عن تكرار توصيف الواقع الصعب. إن معركة تحرير لبنان محفوفة بالمخاطر على جبهة مواجهة السلطة، وما يزيد من صعوبتها أن غالبية الشعب موجوع، ومحبط، ومتألم، ويواجه أزمات مالية ومعيشية واستشفائية وحياتية. اللبنانيون لا يريدون شعارات تداعب آلامهم، بل يتطلعون الى تغيير حقيقي، يطرح خطّة إنقاذية، واقعيّة، متكاملة تقوم على مراجعة شاملة وعميقة لكل السياسات التي تسبّبت بالانهيار، وتحترم الدستور وإرادة الشعب ومرجعية الدولة.
العقد، القديمة منها والمستجدة، لن تذلّل وبالتالي إن المراهنة على حكومة تديرها ذات الطبقة الفاسدة رهانٌ على سراب… المطلوب شيء آخر.