ماذا نقول تعليقاً على هذه الايام الزفت؟
بالأمس القريب… تحرّك اللبنانيون بمناسبة مرور عام على مأساة انفجار المرفأ التي نسِفت وقتلت وهدمت وشرّدت نصف سكان بيروت، مخلفة سيلا من الخوف والرعب والذهول. ست الدنيا بيروت، قُتِلتْ وسُحِقَتْ معالمها وتلاشت رموزها وفي الطليعة، مرفأُها الذي تجمهر عزّ لبنان الحضاري والإقتصادي في ثنايا مياهه وهمّة أبنائه، وطموحٍ لا يحدّ، جعل من هذه المدينة على مدى تاريخ مديد درّة الشرق التي تمركزت في أرجائها الحيّة والحيوية تجارة المنطقة وإطلالاتها على العالم وعلى مشارق الأرض ومغاربها. هذه المدينة البرّاقة، مرّت على مدى الأزمات والمراحل بجملةٍ من الظروف والأحوال المتنوعة، طاولتها حروب وصراعات داخلية ونكسات وانهيارات، كما سمَتْ بها مراحل من تاريخها إلى سدّة التفوّق والبروز ومرّت على حكمها قيادات ورئاسات وعهود، إرتفعت بكفاءاتهم أعمدة هذا الوطن المتواضع في مساحته وتعداد سكانه، فكان في فترات عديدة من تاريخه الحافل تعج فيه قياداته السياسية والعسكرية والحضارية، نذكر على سبيل المثال قادة متفوقين في هذه الميادين وسواها، أمثال الرئيس فؤاد شهاب وشارل مالك، وصائب سلام، وغسان تويني ورفيق الحريري، نذكر هذا اللبنان الذي عشنا بعض مراحل زهوّه وتفوّقه، كما نذكر في الوقت نفسه أياما مقيتة من حروبه وثوراته الداخلية، ولكننا في هذا المجال نأخذ هذه المراحل بخيرها وشرّها من خلال معادلة أحاطت بها محبة وتقدير أخواننا في المحيط العربي وخاصّةً منهم إخوتنا في الخليج وبعض البلدان الصديقة التي قدّرت للبنان أدواره البنّاءة في المنطقة وفي العالم، فرفعته في أكثر من مناسبة، من مهاويه الحادة ونكساته المؤلمة، وكان من بينها مؤتمر الطائف والدوحة والدعم العربي المشكور الذي تمكّنا من خلاله في أكثر من وضع مأساوي طاولنا، من استعادة أوضاعنا المستقرّة، ومتابعة مراحلنا اللاحقة بكثير من الزخم والحيوية والبروز الحضاري.
ومرّت الأيام، وأقبل إلينا حين من الدهر، انقلبت فيه أوضاعنا إلى ما نعيشه في هذه المرحلة القائمة من هذا الزمن القبيح. السلطة في هذه البلاد، انقلبت رأسا على عقب، وأوصلت إلى رؤوس الحكم، جملة من القيادات المشبوهة من خلال انقلابات عقائدية ومذهبية مرتبطة إلى حدود بعيدة بالتحولات الإقليمية التي طاولت بعض مناطق الشرق الاوسط، ومن بينها لبنان، إضافة إلى بروز حكم محلّي إنقلابي، وضع يده على السلطة المحلية، وأدخل البلاد في حرب داخلية طاولت على وجه الخصوص، المجتمع المسيحي، وكان أن تطورت الظروف إلى حدود التحالف الذي حصل في كنيسة مار مخايل وضم إليه، حزب الله والتيار الوطني الحر، وبقية الأحداث حيث توفرت ظروف ومداخلات داخلية وإقليمية أدّت لإيصال الجنرال ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وأوصلت معه رديفه الذي تدور الأحداث في نهايات هذا العهد وسط تصميم على إيصال صهره جبران باسيل إلى سدّة الحكم المقبل وسط أحداث طرأت وقد يطرأ غيرها في نهاية هذا العهد (القوي)، ومنها سنوات عديدة مرت على لبنان واللبنانيين، ولم يتمكن فيها من ابراز نواحي قوته وقدرته على الإمساك بمفاصل البلاد، ومسيرتها الطبيعية، مرددا في هذا الصدد المؤلم: «ما خلّوني» .
وبعد: لم يكفِ اللبنايين شرور مأساة المرفأ التي طاولتهم بكل ضحاياها وخرابها ودمارها. ها هي مأساة أخرى طاولت بلادنا في التليل-عكار، وحرقت أرواح وأجساد الأبرياء من أهلها وسكانها الساعين إلى الإستحصال على بعض المحروقات التي توفر لهم سبل العيش المعقولة، بما يؤمن لهم تنقلاتهم بحثا عن اللقمة الصعبة، وبعضا من الحياة الكريمة التي أصبحت من سابع المستحيلات، وتنافست الألسن الطويلة في استهدافها لمنطقة عكار وأهلها متجاهلة مسؤولياتها في محاولاتها المشبوهة لعزل تلك المنطقة المنكوبة عن التصاقها بلبنان أرضا وشعبا ومؤسسات، ومن المخزي حقا أن نحد قيادات لبنانية رئيسية تسارع تكرارا إلى محاولاتٍ لعزل هذه المنطقة عن انتمائها اللبناني الأصيل وعن معاناتها التي يشكو منها أهلها وشعبها المكابد الصامد في كل سبل الحياة الكريمة التي تكرّرت المواقف المؤدية إلى إلحاق العقاب المفتعل والظالم بها وبأية إطلالة لها على أوجه الحياة المعقولة والمقبولة. عار على لبنان أن تتوالى المآسي عليه وعلى بعض مناطقه المرصودة والمقصودة والمصوّب عليها من ذوي الألسن الطويلة والغايات المتجاهلة لأصالة تلك المنطقة وحجم المظالم التي تلاحقها من قُرْبٍ ومن بُعْد، مع إشارة لا بد منها إلى أنّ لبنان لا يسلَمُ ولا ينجو من أهواله القائمة والمتوقعة إذا ما استمرّ تجاهل المسؤولين المعزولين في واقع الحال عن رضى الجماهير المسحوقة التي تتكرر المناسبات المؤلمة والمأساوية، مبرزةً مدى المعاناة التي تطاولها وتنهش في واقعها المؤلم ومستقبلها الغامض والمجهول.
إنّ الدعوات متعددة المصادر والإنتماءات التي باتت تركز بكثير من الحدّة والشمولية على إحداث ذلك التغيير في القيادات العليا والوسطى والصغرى، وتتوجه بكل جرأة إلى مطالبة الممسكين بمفاتيح الوضع العام، بالرحيل والإستقالة، وهو مطلب يتماشى في هذه الأيام الموجعة، مع فداحة الأوضاع الإنحدارية التي تعاني منها أغلبية المواطنين الذين باتوا بغوصون إلى قعر المعاناة دون حدود ولا توقف، ولا يجدون في أي من مواقع السلطة أي تجاوب وأي معين. المآسي تتكرر وتتعاقب بلا حدود، وهناك مخاطر متوقعة من شعبنا المعاني والمكابد، يمكن أن تفاجئه وتزيد من معاناته ومآسيه في أية منطقة وأي شارع وأي زاروب، فتزداد حياته لهبا وأسى ومكابدة، بعيدة عن أية إمكانية للصمود وللتحمل.
أيها الطقم الحاكم بكافة مستوياته، دعوا للحياة متنفسا يتيح للبنانيين بعض الأمل في بقية من عيش وحياة وبقاء لهذا الوطن المنكوب.
الناس غارقون في بحار الإذلال والتردي والوجود الإنتحاري، على الأقل مكّنوا هذا البلد المنكوب من أن تكون له حكومة تتأرجح ما بين النجاح والفشل، مع أمل خجول لرئيس الحكومة المكلف في أن تواكب هذه الحكومة المتأرجحة متطلباته الحيوية والحياتية، بما يتيح له أن يستعيد بعض إمكانيات البقاء والإستمرار والعيش البعيد عن دواعي الذّل والهوان والإنهيار المريع الذي ما بعده من خلاص ولا قيامة.