Site icon IMLebanon

السواد حالك والناس “تحترق”… أهلاً بكم في جهنّم!

 

الله يُمهل ولا يُهمل

 

قبل أشهر، قال صاحب الفخامة: رايحين ع جهنم. والبارحة، من يومين أو ثلاثة، قال دولة الرئيس السابق والمكلف السابق لمنصب دولة الرئيس: “هذه هي الطريق السريع الى جهنم”. وفي هذين اليومين تكررت كلمة “جهنم” في التعليقات: “شق الطريق الى جهنم” و”سوق جهنم الحمراء” و”أخذتونا على جهنم” و “الإتجاه الإجباري الى جهنم” الى أن خرج أحدهم ليقول: “لم ندخل جهنم بعد”. فماذا بعد من كل “النيران” التي تلطم ناسنا من كل الإتجاهات لنسقط بالفعل في قلب جهنم؟ وهل لجهنم معايير أشد وأقسى من كل الويلات التي نحن فيها؟

 

 

“يا أبونا، رايحين ع جهنم أم بلغناها؟ لا كهرباء، لا دواء، لا محروقات، لا مياه، لا أمن وأمان، لا مستشفيات، موت، وجع، حزن، بؤس، قلق… جهنم تحرقنا”. أجاب الأبونا: “يا أخوتي، نحن أولاد الله والرجاء والعذراء مريم وجهنم أبشع مما تعيشون كثيراً كثيراً…”.

 

أبونا وحده لا يعترف بسقوطنا في جهنم. هو الإيمان الذي قيل فيه إنه قوّة ساحرة إذا تغلغت في الأعماق تكاد تجعل المستحيل ممكناً. نحاول أن نُمسك بالمسبحة وتلاوة الصلاة لكن الأفكار السوداء تعود وتلحّ علينا في نهايات كل يوم طويل بائس مفعم بالألم. نتذكر “فقير المال” الذي يجلس على إحدى مستديرات بيروت، تحت عين الشمس الحارقة، اختفى. سألنا عنه. مات. حرقته الشمس فمات. نقصد سنترال سن الفيل لسداد فاتورة الهاتف الثابت. المركز مقفل. نعود مجدداً. لا يزال المركز مقفلاً ووحدها “اللمبة” عند الباب تعمل في عزّ النهار. نقصد سنترال الجديدة. هو مقفل أيضاً مع إعلان على الباب منذ أيام طويلة: “الصندوق مقفل حالياً بسبب عطل”. عطل؟ نتذكر ان العطب في الدولة بأكملها. الخطوط الثابتة قُطعت. فمن قطع حرارة تلك الخطوط ما دامت السنترالات، كما الدولة، في عطلة لا تنتهي؟ نقصد مكتب ليبان بوست لدفع ضريبة الدخل. نجلس ساعات قبل أن يُعلمنا رئيس المركز في الجديدة: “السيستام تعطل”. نعود في اليوم التالي. “السيستام” يستمر معطلاً. ومهلة الدفع انتهت. ماذا تفعل بنا هذه الدولة؟ تقتلنا وتمشي في جنازتنا؟ أعصابنا تحترق.

 

جهنم الطيّبين والمحظيين

 

موظفو الإدارات العامة في إضراب. والمواطن المسكين الذي يستمر مؤمناً بوجوب إتمام واجباته يأكل في اليوم القصير صفعات.

 

لا تحتاجون الى من يُخبركم عن الزحمة أمام محطات البنزين. نقف أم نَجمَد في أمكنتنا بلا حراك ولا حياة؟ وقفنا في الطابور الطويل. بوليس بلدية الجديدة يُنظم سير الطابور. وبين مركبة ومركبة “سعيد حظ”، يشكّ ويمرّ ويسبقنا. رئيس بلدية السد- البوشرية- الجديدة أنطوان جبارة يُحاول قدر الإمكان إعطاء التعليمات بوجوب إحترام الصفوف الطويلة، لكن، كما تعلمون، البلد سايب وأعصاب الناس “بالويل”. إنتظرنا في الطابور مئة دقيقة وأكثر، الى أن أطلّ درّاج ونقل إلينا خبراً مفاده أن البنزين نفد والكهرباء قُطعت والمحطة توقفت “وإلى الغد إنشالله”. جباه الناس تتصبب عرقاً ووجوههم اسودت وبدأوا بالمغادرة. إنها جهنم.

 

عدد السيارات والآليات في لبنان نحو 1,6 مليون سيارة وآلية. وقد أرغمت، بحسب الدولية للمعلومات، 1,2 مليون منها على الأقل، على الإنتظار بين ساعة وأربع ساعات كل اربعة أيام، لتعبئة خزاناتها. وهناك نحو 400 ألف سيارة وآلية أصحابها من المحظيين. تُرى هل جهنم الطيبين أقسى من جهنم المحظيين؟ سؤالٌ يطرح.

 

نحن لا ننام. اللبنانيون لا ينامون. الحرّ شديد والمياه مقطوعة والكهرباء مقطوعة والنَفَس مقطوع. حتى النوم بات عصياً. ومن يوم ليوم، ومن ليلة الى ليلة، يُصبح من لا ينام متوتراً وأعصابه “ع راس منخاره” ويشعر بالاسوداد أكثر وبنار جهنم تحاصره.

 

 

مشهد يومي

 

هناك، في البترون، دردشات لا تنتهي بين فاعليات المدينة. “فالأغراب يطبون على المحطات في المنطقة” والأهالي يشعرون بالغبن بسبب الوقوف في طوابير لا تنتهي من شكا حتى المدفون طلباً لليترات قليلة من البنزين. عبثاً. هؤلاء لا يطلبون أكثر من تنظيم الوقوف على المحطات. إنهم يطالبون رؤساء البلديات والمخاتير وحتى الكهنة بالتحرك. حميد خوري رئيس بلدية أجدبرا نزل بنفسه الى المحطة، قبالة الريجي في البترون، وأشرف على التوزيع. الباحث والأكاديمي عصام خليفة مقطوعة عنه المياه كما عن كل المنطقة الوسطى في البترون وقال: “المياه اهم من البنزين. وين المسؤولين عن المياه؟” رؤساء البلديات في المنطقة اجتمعوا مع إتحاد البلديات وتفاهموا على جمع معلومات- داتا- عن حاجات المنطقة وإيجاد الحلول وعلى ان تكون مصلحة المنطقة وأهلها “فوق كل اعتبار” لكنهم استثنوا عن قصد أو عن غير قصد مخاتير البترون. فقامت قيامة المخاتير، ولهم كل الحق، لأن دور المختار يتعدى إعطاء إفادة سكن ووثيقة زواج او ولادة أو وفاة أو طلب جواز سفر وإخراج قيد. المختار هو ضابط عدلي منتخب من الشعب وله، خصوصاً في هذه الفترة الوجودية المصيرية، صفة قانونية وشرعية. وهناك في البترون 86 مختاراً وتوجد 40 بلدة من دون بلديات مسؤول عنها مخاتير. كل منطقة مشغولة بحالِها. ولا أحد، في كل لبنان، من أقصاه الى أقصاه، يثق بأحد على قاعدة “ما بيحك جلدك إلا ظفرك”. هؤلاء البترونيون يكررون كلمة “جهنم” مراراً وهم يروون معاناة لا تنتهي.

 

نعود لنسأل عن حال البلد ومن فيه وعن شكل جهنم التي وعدنا بها وبلغناها. جهنم هي نفسها الجحيم. والمسلمون والمسيحيون يؤمنون معاً أن جهنم شديدة الحرارة، وهي سوداء كما سواد الليل، يدخلها من كتب عليه الله الشقاء بعد الحساب يوم القيامة.

 

جهنم نار وسواد. ونحن نعيش السواد والنار. فهل أراد الله أن نقدم جلجلتنا على الأرض؟

 

شحّاذون ولصوص

 

الشحاذون زادوا. اللصوص أيضاً. البارحة، في موقف سيارات أحد متاجر منطقة الدكوانة، نحو الساعة السابعة والثلث مساء، إقترب رجل في الأربعين من عمره تقريباً من ثلاثة شبان، أولاد عيل، كانوا يصعدون الى سيارتهم المركونة في “الباركينغ” وبيده عصا وقال لهم بلهجة الأمر: “شو معكم اعطوني يلا”. أعطوه. لا أمان في البلد. وهم، في القصور العاجية، يُخبروننا حكايات إبريق الزيت ويختبرون فعالية إبر المورفين. إنهم يضحكون على الناس، وأعصاب الناس الطيبين تلتهب غضباً.

 

قوارير الغاز مفقودة. البيوت بلا غاز. وطبخة العدس في مطبخ “إم توفيق” لم تستو. والبارحة رفعوا سعر القارورة المنزلية الى 90 ألفاً و400 ليرة ولا تزال مفقودة. هو الجنون. هو الجحيم. الغاز ضرورة. البنزين ضرورة. المازوت ضرورة. والمياه بالتأكيد ضرورة. اليونيسف أعلنت مرة جديدة في أقل من شهر “أن أكثر من 71 في المئة من سكان لبنان لا يحصلون على المياه هذا الصيف، ما أجبر 4 ملايين شخص الى اللجوء لمصادر غير آمنة”.

 

الوجوه صفر. القلق شديد. والحياة تغيّرت “فوقاني تحتاني” وهناك، من يصرّ عند كل سؤال الى إعادة الأسباب الى ثلاثين عاماً الى الوراء، وكأن عبثية 16 عاماً الى الوراء غير محتسبة ضمنها، وعبثية خمسة أعوام الى الوراء مسموحة!

 

 

لقمة الفقير

 

 

للبيع بداعي السفرعشرات الشركات اتخذت الأسبوع الماضي قرارها ووضّب موظفوها حقائبهم وانتقلوا الى تركيا وقبرص والأردن ليكملوا أعمالهم من هناك. فندق فينيسيا معروض للبيع بمبلغ 300 مليون دولار وزوجة أحد كبار السياسيين عرضت دفع 250 مليون دولار. أوتيلات ومؤسسات سياحية بالجملة تفتح فروعاً في الخارج وتقفل فروعها في لبنان. فالوضع في لبنان، إن كانت جهنم سواداً ونيراناً، أشبه بجهنم. إحداهن حجزت أول الأسبوع، على أول مقعد وجدته في أقرب طائرة، للإنتقال نهائياً الى فرنسا الحنونة، قبل وصول باخرة السيد حسن، الجزء المتحرّك من الأرض اللبنانية!

 

أمراض القلب زادت. أمراض السرطان زادت. أعداد كورونا كذلك. والشعارات أيضاً. التيار الوطني الحر يتكلم ليل نهار عن إستعادة حقوق المسيحيين وهو البارحة، قرر أن “يلعب لعبة” في نقابة اختصاصيي مختبرات الأسنان سمحت بالإتيان بنقيب سني، بعد نقيب كان سنياً، علماً أن المداورة كانت معتمدة بين المسيحيين والمحمديين في النقابة. فعل “الباسيليون” ذلك كي يحولوا دون وصول نقيب مسيحي لا يقول للآمر منهم: أمرك سيدنا. هو جنون آخر. لسنا طبعاً ضد أن يكون النقيب سنياً أو مسيحياً أو شيعياً لكن ما معنى أن يزايد أحدهم طائفياً ثم يُمرر من تحت الطاولة أمراً ما يستفيد منه؟. هو الخبث السياسي؟ هو الخبث.

 

هل نحن في جهنم؟ هل علينا أن نسأل فخامة الرئيس إذا كنا حقاً قد وصلنا أم أن المطبات بعد كثيرة قبل الوصول الأخير؟ في الدين الإسلامي قيل “إن ناركم جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم”. وليس النيران وحدها في جهنم هناك أيضاً البرودة التي قد يشعر بها لبنانيون كثيرون “بعد كم شهر” حيث لا تدفئة ولا مازوت لكن إطمئنوا لأن “زمهرير جهنم” تبقى أشد. يعني جهنم التي نعيش تبقى أخف بكثير من جهنم من فعلوا بنا كل ما فعلوه ويفعلونه.

 

نجول في بيروت، نتمهل قبالة المرفأ، ننظر يميناً ويساراً. ننظر صوب الجبال البعيدة. ننظر صوب الشمال. رائحة الموت تستمر قوية في أنوفنا. إنها أقسى ما قد يشتمه إنسان. والله في كل ذلك يمهل ولا يهمل.