IMLebanon

لبنان نحو المجهول 

 

 

 

من حق اللبنانيين أن يعبّروا عن سخطهم وغضبهم من تمادي هذه الطبقة السياسية الفاسدة في استغلال مواقعها ونفوذها لخدمة مصالحها والإثراء غير المشروع من خلال نهب المال العام وتسخير جميع الطاقات والموارد الوطنية من أجل زيادة ثرواتها على حساب لقمة عيش النّاس. ولكن لم تكتفِ هذه الطبقة السياسية بالاستغلال والتغوّل الذي تمارسه داخلياً، بل ارتبطت بدول ومحاور إقليمية ودولية، وعملت لصالحها، وذلك على حساب سيادة لبنان ومصالحه العربية والدولية.

 

أدّى امعان بعض القوى السياسية والأحزاب في الاسترسال في خدمة مصالحها من خلال الارتباط بمشاريع دول إقليمية وأجنبية إلى اضعاف جميع مؤسسات الدولة الأساسية، وبالتالي اخضاعها لنفوذها وتوظيفها في خدمة المشاريع التي تسعى هذه الدول أو المحاور إلى تحقيقها، دون النظر إلى ما يمكن ان تتسبب به هذه المشاريع من اضرار للبنانيين ولعلاقات لبنان بالدول الشقيقة والصديقة، وخصوصاً للمملكة العربية السعودية ولدول مجلس التعاون الخليجي الأخرى.

 

هنا يكمن لبّ الأزمة التي يواجهها لبنان في علاقاته العربية والدولية، وهذا ما اشرت إليه بالقرارات السعودية بسحب سفيرها من لبنان ووقف كل الصادرات اللبنانية إليها وطرد السفير اللبناني لديها، والتي جارتها فيها دولة الكويت ومملكة البحرين ودولة الإمارات، وكان اللافت ان هذه القرارات الخليجية قد تزامنت مع إصدار وزارة الخزانة الأميركية لائحة عقوبات جديدة بحق مسؤول سياسي بالإضافة إلى بعض رجال الأعمال بتهمة الفساد واستغلال المال العام، وبما يؤشر إلى تصنيف لبنان كدولة فاشلة، وبما يستدعي اتخاذ إجراءات تنذر بعزله دولياً وعربياً.

 

شكلت القرارات الخليجية صدمة وإحباطاً لجميع اللبنانيين المطالبين باسترجاع سيادة الدولة على قراراتها ومؤسساتها وأراضيها، وهذا ما دعاني للعودة إلى بعض فصول كتاب بعنوان «الدور الضائع» للخبير الاقتصادي مروان اسكندر، لأقف على أطلال النجاحات الكبرى لرجالات لبنان الكبار الذين دفعوا بلبنان نحو العولمة امثال: شارل قرم وآمبل بستاني ومنير أبو حيدر ورفيق الحريري ومؤسسته لتعليم اللبنانيين وإعادة اعمار لبنان. صدر الكتاب في عام 2000، وشكل محاولة لاستشراف قدرة لبنان على مواجهة تحديات القرن الواحد والعشرين في معرض استشرافه لمستقبل الاقتصاد اللبناني، رأى اسكندر «ان مركز الانطلاق تقليص دور وحجم القطاع العام، ووصفة النجاح حسر الاعتبارات الطائفية، وضمان المستقبل الإصلاح السياسي القائم على التمثيل الشعبي الحقيقي، وسيادة القانون».

 

نعم يُشكّل الإصلاح السياسي وترسيخ دولة القانون المرتكزين الأساسيين لمجتمع المستقبل وبدونهما لا نمو ولا عدالة ولا ثقة ولا استثمار ولا عودة للمعطائين في نشاطهم ومنطلقاتهم، ولا مكان للبنان بين الدول المتطورة والواعدة خلال القرن الواحد والعشرين.

 

لكن وللأسف الشديد لم يحدث الإصلاح السياسي وترسيخ دولة القانون بعد توقيع اتفاقية الطائف وبدء الجمهورية الثانية وانتهاء الحرب الأهلية وذلك بسبب هيمنة الوصاية السورية سياسياً وأمنياً على لبنان وقرارها بتسلم السلطة إلى امراء الحرب الأهلية، وتسهيلها لربط مصير لبنان بالمشروع الإقليمي الذي تقوده إيران في المنطقة منذ قيام الدولة الإسلامية واطلاقها لشعار تصدير الثورة إلى الدول العربية منذ عام 1979، كان يمكن للبنان ان يستعيد عافيته السياسية والاقتصادية لو سمح السوريون بتطبيق الإصلاحات السياسية والاقتصادية والتنظيمية التي نص عليها اتفاق الطائف، والذي جرى في النهاية تطبيقه بصورة انتقائية، وبما يخدم مصلحة النظام السوري ومصلحة حليفته إيران، من خلال الإبقاء على سلاح حزب الله، بعد نزع سلاح كل الميليشيات الأخرى التي شاركت في الحرب، وذلك بحجة انه سلاح مقاوم للاحتلال الإسرائيلي لأجزاء من الجنوب.

 

كان من الممكن ان تتحقق اقتراحات اسكندر بالاصلاح السياسي وترسيخ دولة القانون في عام 2000 لخطوة أساسية على طريق بناء جمهورية الطائف فيما لو لم يُبادر محور الممانعة المشكل من إيران وسوريا إلى استحضار حجة تحرير مزارع شبعا وتلال كفرشوبا للإبقاء على سلاح حزب الله بعد الانسحاب الإسرائيلي من الشريط الحدودي. وكان من الواضح جداً بأن الاحتفاظ بسلاح حزب الله لن يخدم مصلحة لبنان في تحرير المزارع، والتي ترفض سوريا الاعتراف رسمياً بتبعيتها الجغرافية والقانونية للجمهورية اللبنانية. وبالرغم من إدراك السلطات اللبنانية والقوى السياسية بأن الإبقاء على سلاح حزب الله لن يكون لصالح لبنان، وذلك انطلاقاً من الخلل الذي سيتركه على موازين القوى داخلياً، وعلى تعكير علاقات لبنان مع القوى الدولية ومع الدول العربية وخاصة الخليجية منها، والتي دخلت في مواجهة مصيرية مع التهديد الإيراني لاستقرارها وأمنها منذ مطلع ثمانينات القرن الماضي.

 

نجحت الهيمنة السورية في فرض سلاح حزب الله على السلطة والشعب اللبناني، من خلال مقولة امتلاكه لقوة الردع اللازمة لمواجهة الاعتداءات الإسرائيلية، في الوقت الذي ادرك فيه الجميع بأن أهدافه واجندته يتعديان حدود المصالح اللبنانية، فهما يصبان في خدمة الدولة الإسلامية ونظام بشار الأسد، وهذا ما اشارت إليه مختلف المهمات  الخاصة التي اوكل إلى خلايا الحزب القيام بها في عدد من الدول الخليجية وداخل مصر بالإضافة إلى عدد من الدول الأوروبية، ودول أميركا اللاتينية.

 

لم تنجح محاولات الرئيس رفيق الحريري للعمل على «عولمة» أزمة لبنان للتخلص من الوصاية السورية ومن الخلل من موازين القوى الداخلية الناتج عن احتفاظ حزب الله، وذلك من خلال الاستعانة بالقوى الدولية الصديقة وخصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا لاستصدار قرار مجلس الأمن رقم 1559، والذي يقضي بخروج القوات السورية من لبنان وبحل كل المجموعات المسلحة سواء كانت لبنانية أو غير لبنانية، وبالفعل فقد شكل هذا القرار معنى الإرادة الدولية لتحرير لبنان من الوصايتين السورية والإيرانية، تمهيداً لبناء الدولة الصالحة، دولة المؤسسات وسيادة القانون. وكان الرد المزلزل على هذا القرار باغتيال رفيق الحريري في 14 شباط عام 2005.

 

خرجت بعدها سوريا من لبنان ولكن نفوذها لم يتراجع بفضل قوة سلاح حزب الله وحلفائها الآخرين، ولكن مع فتح باب الحرية امام إيران وعبر قيادة حزب الله المدعومة من فيلق القدس لفرض هيمنتها الكاملة على السلطة اللبنانية، من خلال الضغوط الكثيفة التي فرضتها على كل الحكومات اللبنانية المتعاقبة للقبول في بياناتها الوزارية بثلاثية الجيش والشعب والمقاومة. وحدثت «المفاجأة الكبرى» باختراق حزب الله للوسطين السياسي والشعبي المسيحي من خلال توقيع «اتفاق مار مخايل» بين حزب الله والتيار الوطني الحر، والذي تطوّر إلى حالة من السيطرة الكاملة على كل مفاصل الدولة بما فيها رئاسة الجمهورية من خلال انتخاب العماد ميشال عون بعد فراغ دائم لأكثر من سنتين، وبما يُؤكّد مع نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة هيمنة حزب الله على كل مفاصل القرار اللبناني، ما اثار حفيظة الدول الخليجية، والتي كانت تنظر إلى لبنان «كالحديقة الخلفية» لها. وبالفعل فقد عملت قيادة حزب الله إعلامياً وسياسياً وعسكرياً على تخريب علاقات لبنان بالدول الخليجية، والتي أدّت إلى اعتماد سياسية «نفض اليدين» من كل ما يواجهه لبنان من مصاعب سياسية ومالية. وانتهت بالقطيعة التي تسببت بها تصريحات وزير الإعلام حول الحرب اليمنية والتي وصفها بالحرب العبثية.

 

تدعو الواقعية السياسية، في ظل الأزمة الاقتصادية والمعيشية وفي ظل الوهن والشلل والتفكك في جسم السلطة اللبنانية، وفي ظل التداعيات المتسارعة للأزمة المتفاقمة مع المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون والتي يواجهها قادة حزب الله بمزيد من التصعيد والمكابرة، مستثمرين ضعف العهد والحكومة وسيطرتهم عليها إلى التساؤل عن مصير لبنان في المستوى المنظور؟ والجواب دون أية مبالغة بأنها رحلة نحو المجهول، قد تضع اللبنانيين امام مصير مشابه للمصير الذي واجهه أجدادهم أيام «سفر برلك» الذي بدأ في عام 1916، مع الأمل ان يثأر لهم القدر بحلول لعنة التاريخ على هذه الطبقccة السياسية الفاسدة التي بددت الاستقلال والسيادة.