مشاكل لبنان الاقتصادية معروفة وتراكمت عبر السنوات بسبب الفساد والاهمال والسياسات العامة الخاطئة وعدم المحاسبة الشعبية. الأزمة الحالية مع الخليج تعمق المشاكل وتزيدها حدة نتيجة العلاقات الطويلة المثمرة مع دول مجلس التعاون. نمو اقتصادي ضعيف أو سلبي في السنوات الأخيرة، انتج ارتفاعا في نسب البطالة وانخفاضا في القوة الشرائية. النمو السلبي هو أحد أهم مسببي هجرة الشباب والأدمغة خاصة في قطاعات مميزة للبلد كالطب والتمريض والتعليم. تدنت الأجور الى مستويات لم تعد تكفي للعيش في الحد الأدنى، خاصة وأننا تعودنا منذ عقود على العيش السهل المدعوم بسخاء دون القدرة على الاستمرار في التمويل. اختفت الأموال فسادا أو هدرا أو سوء حساب وطار الدعم وارتفعت الأسعار بسرعة فائقة مما أصاب المواطن في صميمه. نضيف اليه فقدان السلع الأساسية من الأسواق عبر التهريب أو البيع في السوق السوداء دون حسيب ولا رقيب ولا معاقبة. الدواء غالٍ وغير متوافر، فما العمل أيها اللبناني؟ المواطن متروك لكافة العواصف والرياح.
النمو السلبي خطير خاصة لأن الأفق مسدود ليس بسبب الكورونا فقط وانما خاصة بسبب غياب السياسات المنقذة وقصر النظر واستمرار الفساد. هنالك اهمال عام واضح ومقلق وكأن اللبناني قاصر وبالتالي يمكن استغلاله بالكلمات الكاذبة. اللبناني موجوع ويتذمر ولا من يسأل عنه بجدية سوى بالكلام السياسي الذي لا معنى له ولا يحمل داخله أي اهتمام حقيقي بالمصير. تدنى الناتج المحلي الاجمالي الى مستويات فقر موجعة، ولا بد من رفع الأجور كي يستمر المواطن بالعيش بالحد الأدنى الممكن.
لكن رفع الأجور بنسب مستحقة عادلة ومنطقية سيرفع مستويات التضخم لأن الانتاج أو العرض في الداخل ضعيف بل سيتم تلبية بعض الطلب عبر الاستيراد المكلف جدا بسبب سقوط الليرة. ما العمل؟ تحسين الدخل ضروري وربما رفع الحد الأدنى للأجور الى 1,5 مليون ليرة كما رفع كل الأجور بالنسب نفسها هو جيد شرط دراسة التطورات خلال الأشهر المقبلة. طبعا هذه الزيادات في الأجور غير كافية ولا بد من أن يضاف اليها رفع البدل التعليمي أكثر كما بدل النقل وكافة المنح دون أن ينعكس ذلك ايضافات كبيرة على تعويضات نهاية الخدمة تسبب الافلاسات.
القطاع الخاص موجوع وينزف باستثناء عدد قليل من الشركات المصدرة منذ زمن بعيد والتي تتواجد خارج لبنان أكثر من داخله. بقية القطاع الخاص سيطبق مع الوجع ما يحق للموظف والعامل آملا في انقاذ قريب غير معروفة مصادره. بسبب التخبط الحكومي والرسمي والاداري الحالي، من الصعب توقع نتائج ايجابية سريعة تنعكس تدفقا سخيا للأموال. طالما لن يزداد عرض الدولار بكميات كافية ستبقى الليرة ضعيفة لأن المواطن متعلق اليوم بحبال الهوا، أي بالدولار يشتريه ويخزنه ولا يبيعه الا عند الضرورة القصوى. فكيف يتحسن اذا سعر صرف الليرة؟
يعاني لبنان من مشاكل مهمة أخرى مزمنة كالعجز المالي فوق 10% من الناتج ودين عام يتعدى 180% من الناتج نفسه. هنالك العجز التجاري لأننا نستورد تقريبا كل شيء والذي ينعكس عجزا في ميزان الحساب الجاري يتعدى 25% من الناتج. أما الاحتياطي النقدي في مصرف لبنان فأصبح أقل من 15 مليار دولار بعد ان كان 37 مليار في 2018. استنزف بسبب سياسات الدعم السابقة غير المدروسة التي استمرت لسنوات دون أي تقدير للمساوئ، فكانت كرشوة للمواطن في حياته العادية اليومية. أتى الوقت الذي لم يعد ممكنا خلاله الاستمرار في الدعم الجنوني، فارتفعت الأسعار الى حدود تفوق أي توقع سابق. المشكلة الأصعب هي سعر المحروقات الذي يرتفع بالليرة لسببين أساسيين، هما ارتفاع السعر العالمي لبرميل النفط الذي يمكن أن يصل قريبا الى 100$ كما سقوط الليرة المستمر. الوضع صعب والتوقعات المستقبلية رمادية ومقلقة.
يتطلب الخروج من الوضع الحالي تغييرا كبيرا في هيكلية الاقتصاد وتصحيحا للعلاقات التاريخية مع دول مجلس التعاون. المطلوب تغيير هيكلية الاقتصاد الذي لا يمكن أن يعتمد بعد اليوم على عمالة عربية وأجنبية تأتي لتأخذ أجورا لا قدرة لنا على دفعها. علينا كلبنانيين أن نعمل في قطاعات لم نرغب سابقا في العمل فيها كالزراعة والانشاء والتنظيفات. وزارة العمل اليوم هي الوزارة السيادية بامتياز ودورها مهم جدا، ولا بد من اعطائها الاهتمام الرسمي والشعبي والخاص اللازم. هنالك دور كبير للمؤسسة الوطنية للاستخدام لتحقيق التوازنات الممكنة بين العرض والطلب في أسواق العمل والتي ترتكز أهدافها على الأمور التالية:
ad
أولا: هنالك قطاعات فيها فائض من العمالة ولم يعد هنالك حاجة لها. مثلا السرفيسات أو التاكسي حيث هنالك الألاف من السيارات الشرعية وغير الشرعية التي تجول في البلاد لنقل الركاب. من الضروري تحويل بعض السائقين الى قطاعات أخرى أي توجيههم نحوها وتدريبهم لأن الدخل أعلى والحاجة كبيرة. المواطن اللبناني عدل اليوم طريقة انتقاله فيعتمد مشاركة الآخرين كما يستعمل أكثر الآليات الهوائية أو غيرها. مع تخفيف حجم القطاع العام، لا بد من تطبيق سياسات مماثلة على الفائض البشري فيه.
ثانيا: ارتفاع أسعار المحروقات هو العامل الأكثر خطورة لأنه يؤثر على كل شيء. توفير النقل العام بأسعار منخفضة عبر باصات عرضت علينا من فرنسا وبلجيكا ويمكن جلبها بسهولة. يجب نقل بعض سائقي السرفيسات لقيادتها مع بعض التمرينات. هذا ممكن سريعا ويوفر على اللبنانيين بعض تكلفة النقل الباهظة.
ثالثا: لا بد من اجراء اصلاحات في البنية التحتية بدأ من الطرق الرئيسية والمناطقية. لا نحلم بانشاء طرق سريعة وخطوط قطارات حديثة، لكننا نحلم ببعض التصحيحات الممكنة على طرقنا. بعض الترميمات الأساسية ضرورية كي لا تقع حوادث تطيح بالبشر والآليات. الوزارة السيادية الثانية هي وزارة الأشغال والنقل التي نعلق على ادائها أهمية كبرى.
لا بد بعد زمن غير قصير من أن نحلم باسترداد أموالنا من المصارف. قرار 158 من مصرف لبنان يسمح بسحب بعض الدولارات والليرات، أي يعالج بعض مظاهر الجرح دون أن يشفيه. لن نسترد أموالنا قبل أن يعود الدولار الينا مع صندوق النقد ومن الجهات الأخرى. الاصلاحات المصرفية وفي قطاع التأمين ضرورية كي يطمئن المواطن الى أوضاعه المادية والصحية. لن يطمئن المواطن قبل أن تعطي الانتخابات النيابية المقبلة نتائج مرضية. اذا لم تتوحد قوى التغيير، لن يحصل ذلك وسنستمر في نزف بلدنا حتى أوقات مستقبلية طويلة. الفرصة قادمة، لكن الاستفادة منها غير مؤكدة.