كل من رافق أحداث الصومال، منذ الثمانينيات، على مدى سنوات طويلة، وغطى أخبار هذا البلد وتدهور أوضاع سكانه والمجاعة التي ضربته وصور أطفالها الذين يعانون من سوء التغذية، يدرك تماماً كيف اعتاد العالم سماع أخبار المجاعة والفقر، على رغم كل الجهود الإنسانية وعمل المؤسسات الدولية لتأمين احتياجات الصوماليين.
قد تكون هذه تماماً حال اللبنانيين في اعتيادهم أخبار تدهور عملتهم وأوضاعهم وتراجع مستوى غذائهم ومعيشتهم وغيرهما من يوميات الحياة المأسوية. لم تعد مسؤولية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وحده الذي يقول إن اللبنانيين سيعتادون، ولا مسؤولية المصارف والسلطة السياسية. من رأى أمس، بعدما وصل سعر الدولار إلى 28 ألف ليرة، الكآبة تعلو وجوه عسكريين وموظفين في القطاع العام وأساتذة ثانويين وجامعيين وموظفين، في مقابل غياب الحد الأدنى من ردود الفعل، يطرح أسئلة هي نفسها التي يطرحها ديبلوماسيون على نظرائهم اللبنانيين، في بيروت والخارج، حول تماهي الشعب اللبناني مع هذا الواقع، إضافة إلى طرح هؤلاء الديبلوماسيين أسئلة جدية، عما يرونه من صور تصلهم عبر سفاراتهم، عن افتتاح مطاعم ونوعية الحضور فيها، والسهر و«العجقة» في بعضها الآخر، وحركة المحال التجارية الفخمة في بيروت، فيما لبنان الرسمي يطلب مساعدات غذائية لشعبه. وعلى رغم أن صحافيين غربيين لا يزالون يتضامنون مع لبنان، ومستمرون في تغطية مأساة شعبه الاقتصادية، إلا أن المفارقات التي يرونها ويفرزها لبنان، تكمن في حال الخدر والاستسلام التي باتت مقرفة حد الغثيان، أمام القيام بأي عمل اعتراضي. والأسوأ في ما يفرزه لبنان، أن كل حالات التضامن الإنساني والمساعدات الإنسانية التي تقوم بها المؤسسات والجمعيات، تختفي في ظل همروجات السفر لتمضية الأعياد في الخارج، وتظاهرات الانتماء إلى طبقة «الإقامة الذهبية»، في وقت لم تعد توجد أوصاف للكلام عن حالات الفقر وعدم قدرة اللبنانيين عن شراء أدويتهم.
هذا التباين بين اللبنانيين، وقد عرفه لبنان خلال الحرب والانهيار المالي السابق، مع إنتاج طبقة أثرياء الحرب، يتمدد ليعكس، في شكل حاد، الانقسام بين الحالة الحقيقية لغالبية اللبنانيين، والحالة السياسية. ولعلها إحدى مفارقات «التطبيع» الذي تلزم به الطبقة السياسية نفسها، بعدما ثبت لديها عجز اللبنانيين التام. فرئيس الجمهورية يذهب إلى قطر لافتتاح حفل رياضي، ويمضي نهاره في نشاطه الرئاسي في اللقاءات والتصريحات في شكل عادي. والمجلس النيابي يمارس دوره «التشريعي» وكأن هناك حياة سياسية عادية في بيروت، في نشاط لم يقم به المجلس حتى في عز أيامه التشريعية، من خلال جلسات ولجان تناقش قوانين في دولة يفتقد فيها الجميع إلى تطبيق القانون بالحد الأدنى منه. ورئيس الحكومة يتنقل بين دولة وأخرى، ويكثف اجتماعاته الوزارية خارج مجلس الوزراء، والوزراء يمارسون أعمالهم في شكل عادي، في جولات محلية وخارجية. لكن أسوأ ما في المشهد السياسي هو نشاط النواب والمرشحين استعداداً للانتخابات النيابية المقبلة.
ففي أيام الأسبوع، تنهال الاتصالات الهاتفية على مفاتيح انتخابية للإعداد للقاءات مرشحين إلى الانتخابات نواباً وطامحين للنيابة. وفي عطلة الأسبوع تبدأ اللقاءات الجماعية تتنقل من منزل إلى آخر، ومن كنيسة إلى أخرى، للمشاركة في النشاطات الاجتماعية، والموسم بدأ حافلاً في الاستعداد لعيد الميلاد. والطامحون الميسورون، والحزبيون الذين تخصص لهم إمكانات الحزب المالية، بدأوا بتسييل الدولارات، وكلما ارتفع سعر الدولار ارتاح هؤلاء أكثر. حتى أن بعضهم لم يعد مضطراً لتقديم هبات كاملة بل خفض على سعر براميل المازوت لناخبيهم، في المناطق الجبلية. تجري اللقاءات الانتخابية وكأن الحياة اليومية تسير بوتيرة طبيعية، فالنقاشات تتغير بتغير الأحزاب، بين استهداف العهد واستعادة الحقوق، أو تغيير خريطة المجلس ودور حزب الله. لا يتحدث أحد عن إنماء البلدات ولا مشاريع مستقبلية. لم ينتبه هؤلاء إلى أن الناخبين في الجبال الذين يريدون لهم أن ينتخبوا في أيار بدل آذار بسبب الشتاء، نزحوا فعلياً من بلداتهم بفعل البرد وعدم تأمين المازوت، وأن هؤلاء، ومنهم في قرى التهجير، تهجروا مجدداً من أرضهم بفعل غياب الكهرباء وارتفاع أسعار المولدات، وليس بفعل الحرب، أو عدم دق الأجراس، وأن العجقة في عطلة الأسبوع لا تزال موسمية. ولم يسأل أحد من الحاضرين الحزبيين نوابهم عما فعلوه في مجلس النواب لاستعادة أموالهم، ولا سألوا عن أوتستراد جونيه الذي وعد العهد به أهل كسروان به منذ بدايته، ولم يسأل أحد من الحضور النواب عن تصريف الإنتاج الزراعي، ولا عن النفايات وكل الوعود السابقة. سألوا عن الكهرباء والمازوت، والنواب والمرشحون الحزبيون، في المقابل، اطمأنوا إلى أن محازبيهم لا يزالون على ولائهم لهم، بدليل أن الاجتماعات تضم المحازبين أنفسهم منذ سنوات، والمناصرين الذين لا يزالون منصاعين لقيادتهم الحزبية، حتى لو بلغ سعر الدولار خمسين ألف ليرة.