واضح أنّ انهيار لبنان ليس مسألة تقنية، أي ليس ناجماً بكل بساطة عن فساد القيِّمين على السلطة وغالبية الطبقة السياسية والمالية والاجتماعية، بل هو مسألة سياسية بتوقيته وطبيعته. وللتذكير، بقيت طبقة الفاسدين في لبنان تَلقى تشجيعاً وتحريضاً خارجياً لعقود طويلة، بل كان فسادُها مُموَّلاً ومَمهوراً بمشروعية الدول والمؤسسات الدولية المانحة.
لم ينكشف الانهيار في لبنان إلّا لأنّ النزاع الأميركي- الإيراني وصل إلى الانفجار في عهد دونالد ترامب، أي عندما بدأ الأميركيون حصارهم لإيران و«حزب الله» والسلطة التي من خلالها يتحكّم بالقرار، وأوعزوا إلى القوى والمؤسسات العربية والدولية أن تُقفل على لبنان أبواب الدعم بالمطلق.
فالأميركيون وحلفاؤهم، ولاسيما في الخليج، كانوا يدركون جيداً أنّ الدولة اللبنانية عبارة عن جسم ضعيف ومفكّك، وأنّ الدم الوحيد الذي يغذّيه هو المساعدات. فقرَّروا استخدام هذه الورقة لدفع لبنان إلى التزام خياراتهم والتخلّي عن إيران.
ولذلك، دعَمَ الأميركيون وحلفاؤهم انتفاضة 17 تشرين الأول 2019 بقوة، وردّ الإيرانيون بإحباطها. واليوم، يحاول حلفاء إيران حسم المعارك الآتية، وتكريس سيطرتهم على القرار.
إذاً، الانهيار ورقة سياسية، وهو قد يتمادى ويتحوَّل اهتراءً كاملاً إذا تأخّرت التسويات، لأنّ أي طرف إقليمي أو دولي لا يبدو مستعداً ليدفع «مِن كيسه» ثمن إخراج لبنان من وضعية الانهيار. لكنه قد ينتهي في أي لحظة ويبدأ النهوض.
فالولايات المتحدة تعتقد أنّ استمرارها في الضغط على حلفاء إيران ستدفعهم إلى التراجع في النهاية، وتُحسم المعركة لمصلحتها. وللدلالة إلى ذلك، يطرح بعض المتابعين لموقف واشنطن السؤال الآتي:
هل الولايات المتحدة هي اليوم أقوى ممّا كانت في الشرق الأوسط قبل 10 أعوام أو 20 أم أضعف؟ ويستدركون: إنّها اليوم أقوى بكثير. وهي تزداد نفوذاً، لا بتحقيق الانتصارات المباشرة، بل بتركِ حلفائها يضعفون من تلقاء أنفسهم، تحت تأثير عامل الوقت. وفي تقديرهم، أنّ واشنطن تراهن على استراتيجية «استهلاك الوقت».
ولكن، هل يكون خَطِراً الرهان على الوقت في لبنان؟ أي هل يمكن أن يتسبَّب عامل الوقت بوفاة هذا الرجل المريض، تحت وطأة الحصار ونتيجة التمادي في الرهانات؟
يحاذر الأميركيون إيصال لبنان إلى مكان يسقط فيه لقمة سائغة في فم إيران. ولذلك، هم وحلفاؤهم يعيشون ازدواجية صعبة بين الرغبة في تشديد الحصار والضغوط لإجبار الإيرانيين على التراجع، والحرص على إبقاء الحدّ الأدنى من الدعم (السياسي والمالي والعسكري خصوصاً…) بما يسمح ببقاء هيكليةٍ للدولة والنظام.
ولكن، في المقابل، الإيرانيون أيضاً لا يريدون الانهيار الكامل في لبنان. فليس من مصلحتهم أن تسقط دولةٌ يمتلكون فيها غالبية القرار، بل يستعدُّ فيها حلفاؤهم لتكريس نفوذهم من أعلى مستويات الهرم نزولاً حتى القواعد، حيث يخطّطون لإحداث تحوُّلات في العديد من المؤسسات والقطاعات الحسّاسة، بعد إطباق سيطرتهم على القرار.
إذاً، انهيار لبنان ومصيره عالقٌ بين «النفَس الطويل» الأميركي وأسلوب «القضم» الإيراني. والاستحقاقات الانتخابية في 2022 ستكون مفصلية في المواجهة. ويعمل الإيرانيون لتكريس نفوذهم من خلالها، سواء بإجراء الانتخابات أو بتطييرها.
ولكن، في المقابل، يمكن للأميركيين أن يستخدموا أوراقاً تبدّل المعادلات، ويفاجئوا السلطة في لبنان، وهي شديدة التأثير: مفاوضات الناقورة، المفاوضات مع صندوق النقد الدولي والمساعدات الخارجية من عربية وأوروبية على السواء. وفوق ذلك، تحريك الدعاوى التي يرفعها الدائنون في وجه الدولة، أو متضرِّرون في وجه القطاع المصرفي اللبناني.
ولكن، في هذا الوقت الضائع، ليس الأميركيون والإيرانيون وحدهم يلعبون ورقة الانهيار اللبناني. فإسرائيل يريحها أن تفاوض طرفاً منهاراً ويحتاج إلى تسوية سريعة ليبدأ استثمار الغاز. كما يريحها انهيار لبنان لـ«تبليعه» الحلول التي ربما تنتظر الشرق الأوسط، والتي تقتضي تسويات للمشكلات السياسية والديموغرافية والاقتصادية المعقّدة على حساب العرب، ولبنان واحدٌ منهم.
وثمة مَن يعتقد أنّ انهيار لبنان شكَّل فرصة لكثيرين كي يرثوا موقعه التقليدي في مجالات المال والتجارة والخدمات والسياحة والثقافة. وقد جاء تدمير مرفأ بيروت علامة فارقة في هذا المسار.
وعلى الأرجح، سيبقى الانهيار اللبناني ورقة مساومة بين القوى الدولية والإقليمية النافذة، ولاسيما على طاولة المفاوضات الأميركية- الإيرانية. وسيكون لبنان محظوظاً إذا سلكت النزاعات طريق التسوية في وقت قريب نسبياً، وإذا أدرك اللبنانيون كيف يستفيدون من مناخ التسوية لإيجاد موقع لهم على الخريطة.