يكفي أن نطّلع على وسائل الإعلام مع مطلع كل شمس، لتتضح لنا معالم جديدة آخذة بالتفاقم ومتسلقة لأدراج الحياة بمختلف ميادينها، مركزين على الوضع الأمني المتمثل بتصاعد أعمال القتل والسرقة والتعدي على الأموال والأملاك العامة والخاصة، بما فيه ما برز من تصرّفات جرمية واسعة النطاق وصل بعضها إلى ارتكاب جرائم قتل جماعية، لعلّ أبرزها تلك الجريمة النكراء التي طاولت حياة ثلاث شقيقات ووالدتهن، ودفنهن بعد طمس معالم تلك الجريمة الشنعاء بالباطون، على النحو الذي فصّلته وسائل الإعلام، مع تقصّد من قبلها وقبل المسؤولين الأمنيين بتلطيف وقائعها وأسبابها حرصا على تجنّب ما أمكن من ارتدادتها المختلفة في الداخل اللبناني وخارجه. تلك الإرتدادات التي يرى فيها البعض نتيجة طبيعية ومنتظرة لسوء الأحوال وتدهورها وللسقوط المريع الذي بات يطاول الوضع اللبناني متغلغلا إلى أقصى أعماقه، وقد وصل فيه التدهور إلى تفاقم الأوضاع الحياتية والمعيشية وصولا إلى حالات الفقر المدقع مع كلّ ما تسببت به تلك الأوضاع من نتائج مأساوية في مختلف طبقات وإطارات المجتمع اللبناني بغالبيته الكاسحة. بينما يستغرب البعض الآخر من المواطنين المراقبين والمحللين، كيف أن الأحوال العامة ما زالت على هذا القدر من الجمود الأمني-والترقب والتحسب بينما الأحوال المتدهورة إلى درجة حالة البؤس التي ذكرت مراجع الأمم المتحدة أن لبنان قد تبوأ «بكل فخر واعتزاز»، الدرجة قبل الأخيرة فيها بين كلّ بلدان العالم، والآتي أعظم.
وفي الحصيلة، أن لبنان الذي كان رمزا من رموز الإستقرار والثقافة والعلم والتفوق، والذي كان مستوى العيش في ربوعه، قد تحوّل بقدرة ووقاحة وفلتان الجهات التي أمسكت فيه وبمفاتيح السلطة والمال، إلى دويلة تتحكم بغالبية تلك المفاتيح، وتطمح إلى الإطباق الكلّي على ما بقي منها في إطار الوطن ومواطنيه ومؤسساته وأموال دولته ومؤسساته ومواطنيه ومواطني البلاد الشقيقة لدرجة أن غالبية واسعة باتت تعتبره بلدا محتّلا من بلد آخر وسلطات أخرى تتباهى بأنها باتت ممسكة ومتحكمة بعواصم أكثر من بلد عربي بما فيه لبنان، كما ويقرّ فيه قادة الدويلة الحاكمة في ربوعنا والمتحكمة بأن كل مأكلها ومشربها وسلاحها وتمويلها آتٍ إليها من إيران، هي أوضاع شاذة أطبقت على البلاد والعباد، مستندة إلى وجوبية مقاومة الخطر الإسرائيلي، وهي في ذلك على حق، فهذا الخطر وملحقاته المحلية والإقليمية والدولية، شأن يستوجب الإستعداد والتنبه والمواجهة بتوحّد وطني ومراعاة حكيمة وبريئة من كل المآخذ التي تُخرجُ لبنان من إطارات الوحدة الوطنية ومفهوم السيادة والحرص على ميثاقية وطن يبلغ تعداد طوائفه ثمانية عشر طائفة، كل منها يغنّي على ليلاه في ما تعلق بخصوصياته التي لا يمكن إلغاؤها أو تلطيف سيئاتها إلاّ من خلال توحد لبناني على وجهة تأخذ بعين الإعتبار وضعيات البلد كافة، خاصة من نواحي خلافاتها الظاهرة، والمستترة، وذلك لا يكون إلاّ من خلال قيام دولة قوية بمؤسساتها جميعا، وبتعزيز قواها الوطنية والأمنية وحصرها في إطار الدولة الواحدة البعيدة عن الإنتماءات الخارجية والإرتباطات الإقليمية والدولية، دون أن ننسى أن لبنان يفاخر بوجهه وانتمائه العربي وبالتالي، لا يجوز على الإطلاق أن يُدفع به إلى حالات العداء والمناكفة مع أية جهة كانت في هذا المحيط الذي ترتبط به مصالح لبنان الحيوية، خاصة في الإطار الإقتصادي، وإذا لم يتحقق هذا المنحى، وإذا لبثنا على وضعية الإنحيازات المضرّة والمشبوهة والإنتماء إلى أية جهة تتجاوز حجم أرضنا وشعبنا وإمكاناتنا المادية والمعنوية، وإذا لم نأخذ بعين الإعتبار حالات التدهور المتفاقم الذي تسببه أوضاعنا البائسة واليائسة، وتزيد من وضعية الدفع به إلى «جهنم» التي لم يلتفت البعض إلى مدى حرارتها وحدّتها وغوصها الشديد في غياهب الفقر والعوز والتشرد والهجرة المتفاقمة والمتعاظمة إلى أوطان العالم، سعيا وراء السترة واللقمة والعمل وتأمين حد أدنى من العيش الكريم، وحيث أننا مستمرون في الغوص في غياهب الخراب والدمار والتدهور، فإننا نعود إلى مطلع هذا المقال، ونرى في أولئك المستغربين لاستكانة البلاد إلى أوضاعها الكارثية، كثيرا من سلامة الرؤية، خاصة منهم، أولئك الذين يعتقدون أن الأحوال، وقد وصلت إلى هذا الدرك، لا شك في أنها تدفع بنا وبالوطن إلى أسوأ الأحوال، خاصة ما يمكن أن تخلقه وتؤججه على صعيد الأمن والأمان.