ماذا في اليوم التالي؟ لعل هذا السؤال بات ملحاً وواجباً، والمقصود به ماذا بعد انهيار لبنان النظام والحكم وشرعية الطائف، وماذا ستكون عليه حال الوطن في ظل الجمود المرجح أن يشل الاستحقاقات الدستورية؟
المؤشرات كثيرة ومقلقة، من التعثّر في تشكيل الحكومة منذ أكثر من تسعة أشهر على التكليف وتوقع انسحابه على الانتخابات التشريعية في السنة المقبلة وعلى استحقاق انتخاب رئيس للجمهورية في أكتوبر (تشرين الأول) 2022، لتسقط عندها المؤسسات الدستورية كافة وتدخل البلاد رسمياً في دائرة الدول الفاشلة.
قبل الدخول في السيناريوهات المتداولة لمستقبل البلاد، وكلها بالطبع افتراضية بعضها ترف فكري وقد لا يتحقق شيء منها، تعود إلى الواجهة المقولة التي تعتبر أن ما يجري في لبنان يدخل ضمن مسار مدروس لدفع أطراف الداخل والخارج معاً للتفكير في حلول من خارج الصندوق لتجنب الفوضى عدمية كانت أو خلاقة، وإعادة تركيب النظام السياسي وترتيب الحياة السياسية على أسس جديدة ومختلفة تكون انعكاساً ونتيجة لميزان القوى الداخلي وتواكب المتغيّرات المستجدة في المنطقة. فلبنان القديم مات بعد أن طال الانهيار قطاعاته الرئيسة كافة وفقد تميّزه في المنطقة كما دوره الإقليمي وأهميته الوظيفية في الخارج كما في الداخل، وإكرام الميت في دفنه.
أما بشأن ما تشهده البلاد راهناً، فيصعب تصديق ما يسوّق عن سبب الاستعصاء الحاصل في مفاصل الأزمة المتعددة الأوجه، لا سيما تشكيل الحكومة، وحصره بقضية وزير من هنا أو وزارة من هناك أو تضخيم دور جهة واحدة أو شخص واحد هو رئيس التيار الوطني الحر وصهر رئيس الجمهورية جبران باسيل. في الأمر تبسيط للمعضلة وتسخيف لها، ومع هول المأزق وخطورته التي تصل إلى حد تهديد الكيان، يستحيل حصر علة الشلل بموقف جهة واحدة أو شخص واحد مهما بلغت قدرته وأهميته من دون أن يكون متسلحاً بتحالف سياسي له أهدافه ومشروعه وهو بصدد تنفيذه. ولعل الرئيس ميشال عون لا يرغب في الرئيس سعد الحريري رئيساً للحكومة خشية تسلمه السلطة إذا ما تعطّلت المؤسسات الأخرى لتتكرر تجربته الشخصية عام 1988 كرئيس للحكومة في نهاية عهد الرئيس أمين الجميل وهو العارف بالسطوة التي قد يحظى بها.
أما بشأن السيناريوهات المتداولة فيتصدر المشهد اثنان؛ الأول يعتبر أن الانسداد والانهيار الشامل سوف يدفع المجتمع الدولي للتدخل عبر الأمم المتحدة أو مجلس الأمن، ومحاولة انتشال البلاد عبر إجراءات تُنفذ تحت مظلة دولية وتشمل تدابير اقتصادية بواسطة البنك الدولي وصندوق النقد، وسياسية وأمنية عبر دعم وإسناد الجيش اللبناني، المؤسسة الوحيدة الباقية والمؤهلة للعب دور وطني جامع في تلك المرحلة. وثمة إمكانية لجمع الفرقاء في إطار مؤتمر برعاية الأمم المتحدة بهدف التوصل إلى وضع إطار لإصلاحات سياسية تخرج البلاد من الانسداد الحاصل.
طبعاً بدون هذا السيناريو عقبات كثيرة؛ أولها أن لبنان لم يعد في سلّم أولويات الدول النافذة في المجتمع الدولي، إضافة إلى أن مجلس الأمن يعاني بدوره من شلل وتعطيل جراء الخلافات الأميركية – الروسية – الصينية. وثالث العقبات وأكثرها صعوبة هي العامل الإيراني ودور حليفه العضوي (حزب الله) الداخلي والإقليمي، الذي لا يناسبه مطلقاً مثل هذه التسويات الآيلة إلى تقييده والحد من نفوذه الذي عمل على اكتسابه منذ 40 سنة وأكثر.
السيناريو الثاني الأقرب إلى الواقع هو مؤتمر وطني لبناني برعاية بعض الدول الأجنبية المهتمة وعلى رأسها فرنسا، على غرار مؤتمر سان كلو الذي عُقد في فرنسا عام 2007 أو مؤتمر الطائف في العام 1989 الذي أنهى الحرب الأهلية وأدخل على الدستور تعديلات مهمة.
إذا قدر لمثل هذا المؤتمر الانعقاد على وقع تعطيل المؤسسات الدستورية كافة وانهيار الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية، إضافة إلى واقع ميزان القوة الداخلي، فسيتأثر حتماً بالمستجدات الحاصلة في الإقليم، فسوريا جددت بفضل الدورين الروسي والإيراني لحكم آل الأسد لسبع سنوات مقبلة، والأوضاع في العراق مرشحة للمراوحة بين مشروع دولة سيدة وميليشيات مدعومة من إيران تجعل الاستقرار السياسي سراباً، إلى غزة المنتشية بنتائج حربها الأخيرة مع إسرائيل، وتتربع إيران على قمة هذه السلسلة كالرابح الأكبر لا سيما إذا رجعت للاتفاق النووي ورُفعت بعض العقوبات عنها.
مثل هذا المؤتمر سيأتي بمثابة ثمرة يانعة لوقائع الداخل كما للمناخ السائد في دول المشرق حسبما بيّنا آنفاً، ولا بدّ للدول الراعية له من أخذ هذه العوامل في الاعتبار بعد إنقاذ ما يمكن إنقاذه اقتصادياً ومالياً واجتماعياً.
أما التسوية السياسية فلن تكون بعيدة عن ميزان القوة الداخلي وقوة وتأثير كل طرف من الأطراف الداخلية، وسيبرز هنا تشرذم ووهن القوى المواجهة لحلف «الممانعة» في الداخل والمنطقة بما قد ينعكس على التفاهمات أو التسويات التي قد يتوصل إليها هذا المؤتمر في ترجمة ولو مغلفة لحقيقة ميزان القوة في الداخل. هذا لا يعني أن «حزب الله» سيكون بالضرورة في المقدمة، لكنه سيبقى المحرك المستتر أو صاحب القيادة من الخلف أو المرشد العام ويضع في الواجهة حلفاءه القدامى أو المستجدين.
سيؤمن هذا المؤتمر الحد الأدنى لانتشال لبنان من أزماته المالية والاقتصادية بما تسمح به الصيغة السياسية التي سوف يتم التوصل إليها وأبرز عناوينها:
– دعم الجيش اللبناني كعامل استقرار ووحدة من دون أن يعني ذلك التعرض لسلاح «حزب الله» ودوره في الداخل والخارج.
– تسوية سياسية وإصلاحات دستورية وتشريعية تكون انعكاساً لميزان القوة في الداخل والإقليم، أي لصالح توجهات وأهداف «حزب الله» وحلفائه من المسيحيين والمسلمين، القدامى والمستجدين معاً.
يحق للبعض القول إن هذا السيناريو أغفل ما يتردد عن دور سوري مقبل في لبنان. في الحقيقة، فكرة كهذه تدخل في سياق التمنيات لا أكثر وتشبه تماماً ما يردده كثيرون بشأن انسحاب إيران من سوريا في وقت تشي فيه كل المؤشرات بأن الوجود الإيراني يترسخ ويتجذر. فالأدوار انقلبت، وبدلاً من أن تكون ذراع إيران في لبنان أداة في يد نظام الأسد، بات هذا الأخير أداة في يد إيران وأذرعها، ومن لم يعِ بعد أن سوريا كدولة اختفت فعليه إدراك ذلك.
لا يخفى أن هذا التصور لمستقبل الأوضاع في لبنان مستوحى مما يبدو أنه توسّع وتمكّن المنظمات الخارجة عن الدولة في دول المشرق العربي ومعظمها تديره إيران مثل «حزب الله» و«الحشد الشعبي» والحوثيين وجزئياً حركة «حماس» وكلياً «الجهاد».
إنما أيضاً لا بد من الاعتراف بأن السياسة متحركة وغير جامدة لا سيما أن الإقليم برمته يشهد متغيّرات متسارعة أبرزها في إسرائيل التي رحّلت بنيامين نتنياهو وهو عامل مستجد على سياستها منذ 12 عاماً، من دون أن يعني مطلقاً أنها دخلت مرحلة الاستقرار السياسي وتوصلت إلى رؤى سياسية تجمع عليها لمشاكلها ومشاكل المحيط.
كذلك موقف إسرائيل من إيران لا سيما إذا تمت العودة إلى الاتفاق النووي بدون تفاهم واضح على دورها الإقليمي. إن أثر العامل الإسرائيلي على الاستقرار في المنطقة حاسم ورئيس لا سيما أن رؤيتها للأمور لم تعد متطابقة تماماً مع واشنطن كما في الماضي.
كل ذلك يدعو إلى السؤال ماذا في اليوم التالي؟