Site icon IMLebanon

لا رجال دولة… ولا إستراتيجية استباقية!

 

 

 

لا شيء يوحي في حركة أهل الحكم أن البلد يُنازع في أصعب محناته، وأن الشعب يتخبط في دوامة أزماته، وأن حالات البؤس والفقر والجوع بتزايد مضطرد مع إستمرار الإنهيارات في مختلف القطاعات الحيوية للحياة اليومية.

وعوض إعلان حالة الإستنفار العام  في مختلف مواقع القرار، من المجلس النيابي إلى مجلس الوزراء، إلى كل إدارات المرافق الحيوية في الدولة، نرى الأمور تسير عكس المطلوب في حالات الطوارئ: نواب الأمة في غيبوبة عن مشاكل الناس، والتشريعات الواجب إقرارها، وفي طليعتها قانون الكابيتول كونترول، تدور في جلسات المماحكات والمناورات الفارغة. الحكومة الجديدة مازالت في عالم الغيب، رغم مضي  ثلاثة أشهر على إنتهاء الإنتخابات وإستقالة الحكومة الحالية. حكومة تصريف الأعمال محصورة في أضيق صلاحيات دستورية، وفشلت في إنجاز أبسط الخطوات الإصلاحية، ولم تتمكن من التوصل إلى الإتفاق الموعود مع صندوق النقد الدولي. أما عن العتمة ومشاكل الكهرباء المتراكمة فحدِّث ولا حرج، خاصة بعد أن أصبح مصير الكهرباء مرتبطاً بكميات الفيول العراقي، والتي لا تؤمن التيار الكهربائي أكثر من ساعتين في اليوم، هذا إذا وصلت البواخر قبل نفاد خزانات محطتي دير عمار والزهراني.

أحداث العالم كله، من الحرب الروسية في أوكرانيا إلى أزمة الصين وأميركا حول تايوان، إلى  تشديد العقوبات على كوريا الشمالية وإيران، إلى تعثر مفاوضات فيينا حول الملف النووي الإيراني، إلى الإغتيال الأميركي لزعيم القاعدة أيمن الظواهري، إلى العمليات الإسرائيلية التي إستهدفت قادة في «الجهاد الإسلامي»، وما تبعها من عدوان غادر على غزة،.. كل هذه الأحداث والتطورات تدور حول نظرية «العمليات الإستباقية»، التي يدّعي منفذوها أنهم في سباق مع أعدائهم أو خصومهم السياسيين، قبل أن يتمكنوا من فرض أمر واقع جديد في المعادلات الإقليمية والدولية.

أما في لبنان فالمعايير الإستراتيجية، إذا وجدت، مختلفة جداً، بل معاكسة لما يجري في العالم من سياسات ومواجهات على قاعدة إستباق الحدث أو الإنفجار. لا أحد يكترث للرياح التي تسبق العاصفة، ولا رؤية في تطويق الأزمات قبل إستفحالها، ولا برنامج لإخراج البلاد والعباد من المحن والكوارث التي يتسبب بها سوء الإدارة السياسية، وسرطان الفساد المستشري في عقول المنظومة السياسية.

وإذا أخذنا مثلاً، سلسلة الأزمات الأخيرة التي أوصلتنا إلى جهنم، يتبين بوضوح أن إستخفاف أهل الحكم بتداعيات حركة ١٧ تشرين، وإبقاء البلد أشهراً بلا حكومة فاعلة، إثر إستقالة حكومة الحريري، ثم الإتيان بحكومة من المنظّرين والهواة برئاسة حسان دياب، التي فجّرت الأزمة المالية بعدم تسديد مستحقات اليوروبوند، ثم الإكتفاء فقط بإحصاء عدد الضحايا من الشهداء والجرحى في إنفجار المرفأ، دون تقديم أبسط المساعدات للعائلات والأحياء المنكوبة، وإستمرار العجز مع حكومة ميقاتي التي لم تستطع تحسين وضع الكهرباء رغم كل الوعود العرقوبية، والخلاف بين أطرافها على الصفقات والسمسرات، والتي لم تصل مع صندوق النقد الدولي إلى الخاتمة السعيدة قبل الإستقالة وفقدان الصلاحيات الدستورية اللازمة، فضلاً عن تمنُّع البنك الدولي عن تمويل الغاز المصري وكهرباء الأردن، لأن الحكومة الميقاتية فشلت في تعيين الهيئة الناظمة لقطاع الكهرباء، وتجاهلت مطالب رفع التعرفة ومعالجة الهدر على الشبكات، وتحسين الجبايات، خاصة في المناطق التي لا تدفع فواتير الكهرباء.

ومما يزيد الطين بلّة، أن ذهنية الفشل والعجز مستمرة في الهيمنة على عقول أهل الحكم، وكل المنظومة السياسية، عشية الإستحقاق الرئاسي، وإستفحال أزمات الكهرباء والمياه والرغيف والمحروقات، دون العمل على تجنُّب الفراغ في الرئاسة الأولى، والتباطؤ في تشكيل حكومة فاعلة وقادرة على التعامل مع التحديات المتفاقمة.

إن هذه التحديات وتلك الأزمات تحتاج إلى رؤية وبرنامج يستندان على نظرية «الإستراتيجية الإستباقية»، من قبل رجال دولة نفتقد وجودهم اليوم، لأن الحلول المناسبة لمشاكلنا المعقَّدة تتطلَّب وجود أصحاب قرار حاسم وجريء في السلطة، لا سياسيين إمتهنوا لعبة البيع والشراء وفق مصالحهم الشخصية والفئوية والحزبية، ويتركون المشاكل تتفاقم قبل أن يبادروا إلى تطويقها في بداياتها، طالما هم عاجزون عن إستباق وقوعها بتدابير احتياطية مناسبة.

إعتماد الإستراتيجية الإستباقية هو البداية لوضع قطار الإصلاح والإنقاذ على السكة الصحيحة، أما الحلول فتأتي في سياق متصل عبر قرارات حاسمة لحكومة قادرة، تستعيد بها ثقة الدول المانحة والمؤسسات المالية من جديد.

فهل تحمل الإستحقاقات الداهمة رجال دولة إلى مواقع القرار المتعثر منذ فترة؟