IMLebanon

لبنان متروك… وانزلاقات جديدة نحو الهاوية

 

 

في المدى المنظور، لا انفراج محتملاً في لبنان. فمن سوء الأقدار أنّ المناخ الإقليمي والدولي أصبح أكثر توتراً، بعد انفراجة نسبية في الأشهر الماضية. وإذ عاد التشنج إلى الملف الإيراني، ثمة تجاذبات جديدة تفرض نفسها، وأبرزها: التوتر الفرنسي – الأميركي الذي خرج إلى العلن وبدأ يتصاعد، والفتور السعودي – الأميركي.

 

تكاد الحرب في أوكرانيا ان تنهي عامها الأول. في بداياتها، اجتمع الشركاء على ضفتي الأطلسي: الولايات المتحدة وأوروبا لمواجهة خصم واحد هو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. وخاض الأوروبيون حرباً لا تَردُّد فيها للدفاع عن «الحدود الشرقية لأوروبا الموحَّدة وللحلف الأطلسي».

 

ولكن، على مدى 10 أشهر، تكبَّد الأوروبيون أثماناً باهظة جداً ولا أفق لها. ونمت في أوروبا فكرة مفادها أن لا مصلحة للقارة في مواجهة هي في الأساس بين الولايات المتحدة وروسيا، وأن أوكرانيا هي اليوم ساحة صراعٍ قد ينتهي بتدميرها، ما يترك جروحاً عميقة في الواقع الأوروبي ككل.

 

يراجع الأوروبيون حساباتهم، نتيجة تراجع أرقام الاقتصاد على مستوى القارّة، وتفاقم الأزمات كالطاقة والنازحين الأوكرانيين، إضافة إلى نمو تيارات يمينية متطرفة داخل كل بلد أوروبي، لا سيما ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، تدعو إلى الانعزال والاكتفاء برعاية المصالح الوطنية الضيقة والتوقف عن دفع الأثمان في سبيل الآخرين، ولو داخل الاتحاد الأوروبي أو الحلف الأطلسي.

 

وقبل أيام، شكا مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، من أن حرب أوكرانيا استنزفت مخزونات الأسلحة لدى الاتحاد الأوروبي، وأضعفت القدرات الحيوية اللازمة للدفاع عن حدوده، ما يضطره إلى زيادة الإنفاق الدفاعي بنحو 74 مليار دولار، حتى العام 2025.

 

ولا تكمن المشكلة في هذه الأعباء الجديدة حصراً، بل في أن دول القارة تشعر بأنها متَفرِّدة في المواجهة، وبأن الأعباء ملقاة على كاهلها وحدَها. وفي نظر الأوروبيين، تتعاطى الولايات المتحدة مع الملف من منطلق المصالح فقط، ومن دون التوقّف عند حجم الخسائر التي تصيب الأوروبيين. وأكثر من ذلك، بدأ الأوروبيون يثيرون مسائل مهمّة في طريقة تعاطي الأميركيين معهم، خصوصاً على المستويين العسكري والاقتصادي.

 

فقد تحدث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن سياسة أميركية تجارية «شديدة العداء» تجاه الشركات الفرنسية والأوروبية، بعد القانون الأميركي الخاص بخفض مستوى التضخم، الصادر في آب الفائت، والذي يقضي على أي قدرة تملكها الشركات الأوروبية للمنافسة. أما برلين فحذّرت من حرب تجارية آتية مع الولايات المتحدة.

 

وفي قمتهما الأخيرة في واشنطن، قبل أسبوعين، طلب ماكرون من نظيره الأميركي جو بايدن أن يعيد النظر في سياساته ما يُجنّب القارة الأوروبية أضراراً لا تستطيع تحملها، وتنعكس توتراً في العلاقات داخل الأطلسي.

 

قال ماكرون إن الصين تتصرف انطلاقاً من مصالحها التجارية، والولايات المتحدة كذلك. وعلى الأوروبيين أيضاً أن يَعوا مصالحهم أولاً. وحذّر من «خطر» أن تكون أوروبا عموماً، وفرنسا خصوصاً، ضحية للتنافس التجاري بين واشنطن وبكين.

 

لكن أكثر ما استفزّ الشريك الأميركي هو دعوة ماكرون المثيرة للجدل، غداة القمة، إلى «منح روسيا ضمانات أمنية عندما تتم العودة إلى طاولة المفاوضات»، وطرحُه أن يتولّى هو دور الوسيط لإنهاء الحرب.

 

هذا المناخ لم يلقَ ترحيب بايدن، على رغم كونه واحداً من الرؤساء الأميركيين الأكثر تفهّماً للحلفاء في أوروبا. ويتوجّس الأوروبيون من اقتراب الولايات المتحدة من مناخات المعركة الرئاسية المقبلة، ويخشون أن يصبح الوضع أكثر سوءاً إذا عاد دونالد ترامب إلى الحكم.

 

ولذلك، يسعى ماكرون إلى الاتفاق مع بايدن على صيغة تُنهي الأزمة الأوكرانية وتوقِف تَورُّط أوروبا وخسائرها. وفي قمة بروكسل أمس، دعا ماكرون شركاء فرنسا الأوروبيين إلى مواجهة الخطة الأميركية «بسرعة وقوة».

 

في هذا الخضم، ابتعدت مجدداً فرص التفاهم بين الولايات المتحدة وإيران على خلفية التعاون العسكري والأمني الوثيق، بين إيران وروسيا، في حرب أوكرانيا، ونتيجة جمود المفاوضات حول الملف النووي وصعود اليمين الإسرائيلي الرافض أي تنازل أميركي في الملف.

 

إذاً، وسط هذه الخريطة الدولية – الإقليمية المضطربة، يبدو الوسيط الفرنسي الذي يعتمد عليه لبنان في الدرجة الأولى لصياغة التسويات مُنغمساً في أزماته الأوروبية والأميركية الصعبة، فيما لا شيء يدفع الولايات المتحدة إلى إنهاء حال تقطيع الوقت السائدة في لبنان، ما دام النزاع لا يخرج عن ضوابطه ولا يزعج أحداً في خارج الحدود. أما العرب فليسوا قادرين على إنجاز أي تسوية لبنانية من دون التنسيق مع الأميركيين والأوروبيين.

 

وهكذا، منذ أن تمَّ توقيع اتفاق الترسيم مع إسرائيل، لا يبدو لبنان هدفاً طارئاً لتَدَخُّل القوى الدولية. ولذلك، إذا استمرَّت التجاذبات اللبنانية الداخلية بلا ضوابط، فإن وضعية الانهيار والتفلت ستستمرّ في لبنان حتى إشعار آخر. وهذا يعني أن المرحلة المقبلة تُنذر بمخاطر سياسية واقتصادية واجتماعية، وربما أمنية، يصعب حصرها وتقدير تداعياتها.