تتزاحم المقالات المحلّية والإقليمية، والدولية أحياناً، وتتنافس بين بعضها البعض بابتداعها الأوصاف التقنية المُلائمة للحالة الانهيارية اللبنانية الفريدة من نوعها، وتستخدم مفرداتٍ جديدة غير معهودة للتعبير بشكلٍ أدقّ عن الواقع الأليم الذي أُدخل لبنان إليه عنوةً عن إرادة شعبه. وتتوقّف المطالعات عند أوضاع كافة القطاعات الخدماتية للدولة اللبنانية المنهارة بشكل شامل، متناولةً القطاع الصحّي المتهالك، وقطاع الطاقة المُنطفئ والمُهرَّب، وقطاع الاتصالات المتقطّع والمتفوّق بكلفته، والقطاع المصرفي المُصادِر لأموال المودعين.
وتتطرّق لأوضاع العائلات اللبنانية التي فقدت كامل مقوّمات الحياة، حتى تصل بخلاصاتها إلى توقّع الفوضى الاجتماعية والأمنية نتيجةً لما يعيشه المواطن المُعذَّب، وانسداد الأفق أمامه، أكان بسبب تفاقم أزماته وانعدام سبل الحلول لها، أو بسبب مناعة المُسبِّبين لأزماته وصمت المجتمع الدولي عنهم وتمنّعه عن المساعدة بقبع هؤلاء الحكّام الظالمين ومحاسبتهم، مستذكراً قول لتوماس جيفرسون «كل ما يتطلّبه الطغيان لايجاد موقع قدم له، هو صمت الضمائر الحيّة».
وتتوالى على الشعب اللبناني التحليلات المُدعَّمة بالحجج العلمية لبعض المسؤولين الدوليين المتبارزين بإتحافه بالقراءات والتوقّعات حول المسار الجهنّمي الذي يسير به لبنان وحول كيفية «موت وطن»، فنقرأ في الاعلام المكتوب ونشاهد على الشاشات التعاطف الكلامي مع قضايا هذا البلد في الوقت الذي تُدير المجتمعات الدولية المؤثِّرة في كل زوايا الكرة الأرضية ظهرها للمرض الأساسي الذي سبّب هذا الواقع اللاإنساني الذي يمرّ به هذا الشعب.
وتتزاحم المطالعات والمناظرات المنطلقة من المفاهيم الاقتصادية والمالية لملء الفراغ العلاجي بمحاولةٍ لتشريح النواقص والأخطاء والقرارات التي دفعت بالتعجيل بالانهيار الشامل الذي لم يشهده بلد من قبل في التاريخ، والعوائق التي تمنع عودة الأوضاع الاقتصادية الطبيعية لخطط التعافي، وتنهال على اللبنانيين حفلات «الديوك» التلفزيونية التي ترمي المسؤوليات على بعضها البعض، ويميناً ويساراً وصعوداً ونزولاً، وداخلاً نحو الفساد، وخارجاً نحو المؤامرات. وتدخل على النقاشات مجموعة من الخبراء الدوليين الباحثين عن مصالح أعمالهم السانحة نتيجة الحالة الفريدة فيدفعون أصحاب القرار لاعتماد خطط مالية معينة، ظاهرها انقاذي وباطنها افلاسي وهدفها اخضاعي. ويلتقي معهم العديد من الدبلوماسيين المتعاطفين إعلامياً مع الشعب المُعذّب، وفي الوقت ذاته الضاغطين على المسؤولين السياسيين اللبنانيين المعارضين لاعتماد الواقعية السياسية التي تقضي بالتفاهم مع أفرقاء السلطة المجرمة التي أودت بالبلاد الى التموضع داخل دائرة الدول الفاشلة.
أمّا الحقيقة المؤلمة الكامنة في المنطق المُعتمد في المناظرات والمطالعات والتصريحات فتتمثّل في التعاطي مع الوضع اللبناني من خلال العوارض الناتجة عن المرض الحقيقي والادراك بأنّ الانتقال نحو الحلول لا يكون بالمعالجات التقليدية التي أفقدت لبنان دوره وتموضعه وعلاقاته وطبيعته الاقتصادية والاجتماعية «التطور لا يكون في تجميل ما هو موجود، بل بالتقدّم الى ما يجب أن يكون» لجبران خليل جبران.
ولكن بالرغم من كثرة محاولات خداع الشعب اللبناني وايهامه بنجاعة الحلول الجانبية، فإنّه نتيجةً لتجاربه الكثيرة وخيباته العديدة أصبح على معرفة بأنّ افتقاده للخدمات وللحقوق لم يكن فقط بسبب سوء المسؤولين والادارة الرسمية بل أيضاً بسبب تموضع لبنان فرضاً في المحور المتخلّف التابع للنظام الايراني، وبات هذا الشعب يرفض بديهياً الواقعية السياسية التي يسوّقها بعض الأطراف الداخلية والخارجية والقاضية بضرورة القيام بالتسويات بين الدويلة والفاسدين والفاشلين، كما يُطالب الأفرقاء السياسيين الشاهرين راية بناء دولة القانون بعدم الخضوع للضغوطات الكبيرة التي تُمارس عليهم للدخول إلى منطق التسويات الذي أهلك لبنان وأوصله إلى الدمار الشامل.
الشعب اللبناني الذي يُعاني يومياً ويواجه المعضلات الواحدة تلو الأخرى يُنادي من جهنّمه ومن مآسيه لبناء الدولة حتى لو كان ذلك على حساب تمديد فترة العذابات وحتى لو أدى ذلك إلى خسارته بعض أمواله، لأنّه أصبح متأكداً أن لا خلاص له إلا ببناء الدولة الحقيقية، متبنّياً معادلةٍ أطلقها يوماً ألبرت انشتاين وهي «لا نستطيع حلّ مشاكلنا بذات العقلية التي اعتمدناها عندما خلقناها».
والحقيقة القاطعة أنّ جوهر المعارك السياسية، الرئاسية والبرلمانية والحكومية التي نشهد فصولها يومياً تدور ليس لنيل بعض الأطراف السياسيين مطالبهم الخاصة والسلطوية تحت عناوين الدفاع عن الحقوق الطائفية، وليس لإتمام الصفقات التحاصصية للأفرقاء المُمثِّلة للفئات اللبنانية، بل للإلتزام بمشروع بناء الدولة، وبالطبع ليس جميع الأفرقاء السياسيين مؤهّلين لأخذ القرار بحمل مشروع الانقاذ على أكتافهم، فالقيادة شيء والادارة للشؤون الاصلاحية شيء آخر «الإدارة هي أن تقوم بالأمور بشكل صحيح، والقيادة هي أن تقوم بالعمل الصحّ» لبيتر دركر ( خبير ومستشار أميركي للاعمال)، وهناك من السياسيين من أثبت أنّه أقدم على أخذ القرار الصحيح للولوج في هذه المهمّة التاريخية الانقاذية مهما كان الثمن، فرفَضَ الحوارات المُخادعة وأفشل الوعود الكاذبة ورسم حدود إصطفاف «ولادة الدولة».
الخيار واضح، والقدرة على أخذ القرار مُتاحة، والأعذار لعدم تحمّل المسؤوليات الوطنية باتت قاتلة، والحساب الشعبي التاريخي آتٍ لا محالة، وبناء الدولة حتميّ، فمن يُقدم على مشروعه يستحقّ وطناً.
(*) عضو «تكتّل الجمهورية القوية»