ما من مسؤول يزور عواصم القرار وتلك المعنية بلبنان إلا ويعود بالانطباعات إياها ويردد لازمة «ساعدوا أنفسكم لنساعدكم» لكنّه يستلحقها بالقول إنه ما من مسؤول غربي إلا ويؤكد بأنّ هذه الدول لن تترك لبنان ينهار وستتلقفه لمنع هذا الانهيار، لكنها لن تنقذ اقتصاده وتنفتح سياسياً عليه إلا إذا حقق الشروط المطلوبة منه.
تكرار الشروط بات فرضاً مملاً أشبه بالقواعد المدرسية: انتخاب رئيس للجمهورية قادر على الحوار مع كل الأفرقاء، وعلى الانفتاح مع دول الغرب ودول الخليج، يطلق مع رئيس حكومة وحكومة من الأكفاء، الإصلاحات ويوقع الاتفاق مع صندوق النقد. صار واضحاً أن هذا التوقيع يبتعد كلما تأخر تنفيذ الإجراءات التي جاءت في الاتفاق على مستوى الموظفين قبل 10 أشهر.
وكلما تأخرت هذه الشروط كلما ابتعدت احتمالات تقديم المساعدة للبلد. أمّا ما يعتبره القادة اللبنانيون تنفيذاً لتلك الإجراءات، أي موازنة 2022، ثم قانون رفع السرية المصرفية، فإنّ زوار واشنطن من النواب الذين التقوا إدارة الصندوق عادوا بانطباع أن القيمين على أزمة لبنان الاقتصادية المالية هناك، لا ينظرون بإيجابية إليها، فضلاً عن أن تأخير إقرار قانون هيكلة المصارف وقانون «الكابيتال كونترول»، باتا أقرب إلى لزوم ما لا يلزم نظراً إلى ما يشهده القطاع المصرفي منذ بضعة أسابيع وكذلك سعر صرف الليرة من تدور صاروخي…
هذا الواقع يدحض الآمال بأنّ الدول المعنية لن تترك لبنان ينهار. فما هي المؤسسات التي بقيت صامدة إذا كان القطاع المصرفي بلغ هذه الدرجة من الشلل وانتفاء القدرة حتى على «الكونترول» الذاتي الذي ابتدعه منذ بداية الأزمة المالية في 2019. وهو مقفل على زبائنه وأصحاب الودائع وفي بعض الحالات هو حتى ممتنع عن تلبية مطالبهم بالقطارة، فيما مصرف لبنان عاجز عن تزويده بحاجته من العملة الصعبة، والدعاوى والملاحقات من القضاء لمسؤوليه تتوالى فيما بات عددٌ من رموزه خارج البلاد. والحاكم محاصر بالملاحقات وبالحملات في الداخل والخارج.
أمّا الإدارة فشبه متوقفة عن العمل، والقضاء سقط في جحيم التسييس وباتت قيادته عاجزة عن لملمة أجزائه المتناثرة بعدما فقد هرميته واستقلاليته التي يعد السياسيون بضمانها في قانون يدرسونه منذ سنوات، في وقت تحولت المؤسسة التشريعية سواء بصفتها منبع القوانين، أو هيئة ناخبة معطلة وغير قادرة على الاجتماع. وأخيراً يجري التمهيد لإضعاف المؤسسة العسكرية وتهشيمها سواء كان ذلك لأسباب تتعلق بالمعركة الرئاسية أو لأهداف أخرى.
فضلاً عن أنّه على رأس القطاع المصرفي والحاكمية، والقضاء، والجيش، قيادات مسيحية تدير هذه القطاعات، ما يترك أثراً على الدور المسيحي في تركيبة الدولة، يضاف إلى آثار الشغور الرئاسي على موقع المسيحيين في التركيبة، وهو ما حذر منه البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي ومجلس المطارنة، فإنّ الخطورة أدهى من ذلك. أليس ما حصل خلال الأسابيع الماضية هو الانهيار بعينه، الذي تعد العواصم المعنية بالبلد أنها لن تترك البلد ينساق إليه؟ أليس لبنان في قلب ما سمي الانهيار والارتطام الكبير الذي يجري إيهام اللبنانيين بأنه لم يقع بعد، لمجرد أن البعض يوحي إليهم بأنه يسعى لتجنبه، في وقت أقصى ما يقوم به هو تخفيف سرعة الانحدار؟
يبدو أنّ الانشغال الدولي عن لبنان، بأوكرانيا، والوضع في إيران وتخصيبها العالي لليورانيوم، وترتيب العلاقات العراقية العربية، وزلزالي جنوب تركيا وشمال غرب سوريا… أعاد القيمين على لبنان في الخارج إلى النظرية الأميركية السابقة التي تقوم على مبدأ: فليكسروه وليتولوا إعادة بنائه you brake it you fix it، أي تركه ينهار ولكل حادث حديث، بدلاً من نظرية منعه من الانهيار.
لربما كان هذا ما دفع «حزب الله» لتصعيد الموقف وإطلاق التهديدات قبل أيام، لأن أموراً كثيرة تحصل في المنطقة تصرف الأنظار عن لبنان، لعل تحويله ميداناً يصرف الأنظار عن تحميله مسؤولية كسر البلد، من جهة، ويلفت الأنظار إلى التفاوض معه على إعادة تركيبه بالطريقة التي تلائمه.