Site icon IMLebanon

لا فرج مع الحزب.. ولا «حزب» إن جاء الفرج  

 

 

كانت توصية الصحافي – العرّاب ميشال أبو جودة للمحلّلين في الصحف هي: «التشاؤم». ولا سيّما حين تستعصي المعلومة أو يكتنف الغموضُ حدثاً ما. التشاؤم، بحسبه، أكثر ضمانةً من الرغبات والأماني، في أن يصيب المحلّل في خلاصاته واستنتاجاته أو توصياته.

 

مناسبة استذكار أبو جودة هي طفرات التفاؤل التي تجتاح حياة اللبنانيين بين الفينة والأخرى حول مآل الأزمات السياسية والاقتصادية والأخلاقية المتداخلة، التي تحاصر حياتهم وتصادر مستقبلهم.

 

المناسبة، على نحو أدقّ، هي طفرة التفاؤل الأخيرة بعد صدور بيان اللجنة الخماسية، المكوّنة من السعوديّة ومصر وقطر وفرنسا والولايات المتحدة، بشأن لبنان وانتخاباته الرئاسية الممنوعة، والتعريج على التحقيق في انفجار المرفأ، الذي ربّما وجد طريقه إلى البيان فقط بسبب اقتراب ذكرى الحدث القياميّ الذي هزّ وما يزال يهزّ أعماق وجدان اللبنانيين.

 

عرف اللبنانيون وخبروا بيانات أشدّ وأهمّ، وفي لحظات بدا فيها الكوكب مسمّراً في مكانه بانتظار تطوّرات القضية اللبنانية. وكأنّها العامل المقرّر الوحيد في صناعة السياسة الدولية، كلقاء النورماندي بين الرئيس جورج دبليو بوش والفرنسي جاك شيراك صيف عام 2004 الذي مهّد لولادة القرار الأهمّ في تاريخ لبنان، وهو القرار 1559.

 

عرف اللبنانيون وخبروا مسارات قضائية أهمّ بكثير من أيّ شيء يمكن تصوّره بشأن قضية المرفأ، حين أصدرت المحكمة الخاصة بلبنان حكمها في قضية اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري، واتّهمت عمليّاً الحزب بالمسؤولية عن الجريمة التي ما نزال نعيش في حفرتها منذ 18 عاماً.

 

بعد القرار 1559 جرت محاولة اغتيال الوزير مروان حمادة، ثمّ قُتل الحريري، مفتتحاً نهراً من الدم والدمار. وبعد صدور الحكم في جريمة الحريري دخلت المحكمة حقبة النسيان والأرشيف، في حين ما يزال القاتل، «سيّد» اللعبة السياسية والأمنيّة.

 

ما لم ينفع مع ماكينة القتل والهيمنة، حين كان العالم مجنّداً لمواكبة القضية اللبنانية، لن ينفع مع الماكينة إيّاها في لحظة يبدو فيها الاهتمام بلبنان، ممارسةً، رفعَ عتبٍ لا أكثر، وسط تضارب في رؤى المتابعين وأولويّاتهم وتوقّعاتهم ورهاناتهم.

 

المشكلة أكبر من الحلول

 

مأساة لبنان أنّ مشكلته أكبر بكثير من الحلول المطروحة. بل هي أصلاً غير قابلة للحلّ، أيّ حلّ، في ظلّ تصارع بين الأجندات لا يترك مساحات موضوعية للتلاقي، خارج المجاملات والاستسلامات الموضعية والتأجيل وشراء الوقت.

 

كلّ هذا لا يمهّد لتوافقات يمكن بناء تفاهمات عليها تؤسّس لمستقبل ما للبنان. وأيّ «تسوية» قد يتمّ التوصّل إليها، لن تكون أكثر من إجراء سياسي لا يستحقّ الجهود المبذولة من أجله.

 

حقيقة الأمر، أنّنا بإزاء مخاض طويل، لا توحي ديناميّاته الراهنة بأنّه سيُنتج غالباً ومغلوباً، كمقدّمة ضرورية للاستقرار في لبنان. لنتذكّر، بصدق، أنّ الحرب الأهلية اللبنانية انتهت بغالب ومغلوب، وهي النتيجة التي فتحت الباب أمام الاستقرار النسبي الذي عاشه لبنان بعد عام 1990. والغالب هنا، ليس سوى حافظ الأسد، بعد مشاركته في حرب الخليج لتحرير الكويت، وترفيعه لنخبة سياسية جديدة ممّن صنعوا أدوارهم في النصف الثاني من الحرب الأهلية اللبنانية وانخرطوا عميقاً في تنفيذ الأجندة السورية في لبنان، كنبيه برّي ووليد جنبلاط في الجهة الإسلامية، وإيلي حبيقة وميشال المر مسيحياً، بالإضافة إلى الرئيس الراحل الياس الهراوي وسليمان فرنجية وبقايا شخصيات يسارية وشرذمات عائلات سياسية في جميع الطوائف تقريباً. تُوّجت هذه النخبة بالدور الذي صنعه رفيق الحريري لنفسه، مستفيداً من التقاطع السعودي السوري على وراثة ياسر عرفات في لبنان.

 

المنطقة بلا «منتَصِر»

 

لا غالب ولا مغلوب اليوم في لبنان، على الرغم من شبهات الغلبة هنا وهناك، لأنّ المنطقة ببساطة لم تُنتج بعد غالباً ومغلوباً على مستوى محاورها المتصارعة، يمكن أن تكون لهما ترجمة لبنانية ما. فإيران تتململ بين مصالحة محيطها وشرائح كبرى من مجتمعها وبين حماية مشروعها الثوري، وإسرائيل تخوض غمار أعمق أزمة سياسية واجتماعية في تاريخها الحديث، وتتململ هي الأخرى بين الصورة المبهرة لحداثة تل أبيب، وصورة التخلّف «الداعشي» الآتية من القدس، فيما الخليج، ولا سيّما السعودية والإمارات، يسعى إلى حماية ما أنجز من تجربته الإنمائية مسابقاً الزمن لإعادة ابتكار دوره في عالم ما بعد النفط… أمّا المشرق العربي فيصارع للحفاظ على ما بقي من هياكله السياسية السليمة، ولا سيّما في مصر والأردن والعراق.

 

لا مكان وسط هذه الديناميّات الخطيرة والمعقّدة لحلول جدّية للمشكلة اللبنانية.

 

الهدنة المنطقية الوحيدة هي استمرار الفراغ، لأنّ أيّ تسوية الآن هي تسوية على حساب تنفيس غضب اللبنانيين وإنقاذ المنظومة من ورطتها. فلا رئيس قادر على أن «يشيل الزير من البير». ولو وصلت الضغوط الكونية إلى مستوى أن يضطرّ الحزب إلى القبول برئيس تسوية، فسيعرقل تشكيل الحكومة وسيُدخل البلاد في سجالات خبرناها حول البيان الوزاري والثلث المعطّل وتوزيع الحقائب وحصص الحلفاء وغيرها من تقنيّات النكد السياسي.

 

الانتظار هو الأضمن. إمّا أن ينتصر الحزب في النهاية، بفعل انتصار إيران في الإقليم، ويمضي بتشكيل لبنان على صورته إلى غير رجعة، وإمّا أن يُهزم الحزب بفعل هزيمة المشروع الرجعي في المنطقة، ويُعاد حينها تشكيل لبنان على صورة لبنان التي ظهرت في الأسابيع الماضية من إقبال جارف على الحياة والفرح.

 

من الآن حتى تتّضح الأمور دعونا لا نبالغ في نوبات التفاؤل التي تجتاح اللبنانيين عند كلّ اجتماع وكلّ تصريح وكلّ مقال يصدر عن قرب الفرج.

 

لا فرج مع الحزب. ولا «حزب» إن جاء الفرج. والسلام.