Site icon IMLebanon

لبنان.. مواجهة بين جيلين

لو أن مظاهرات «طلعت ريحتكم» الصاخبة حدثت في غير العاصمة اللبنانية، بيروت، لجاز اعتبارها نهاية عهد قديم، وبداية عهد جديد.. نهاية عهد معظم مكوناته ترى في السياسة أقصر الطرق إلى الثروة، وبداية عهد أقصى أماني شبابه العيش في دولة قادرة على تأمين كهرباء مستدامة وجمع نفاياته دوريًا.

أما وقد فشل الأجداد – جيل «الاستقلال» – في تحويل لبنان إلى وطن لجميع أبنائه، وفشل الآباء – جيل «الاستغلال» للسلطة – في تأهيله لأن يصبح دولة عاملة على صعيد الخدمات العامة على الأقل.. فمن الطبيعي أن يرفض جيله الصاعد تحويله إلى مجرد مكب للنفايات.

واضح أن جيل لبنان الصاعد يدق أبواب السلطة بعفوية تقارب العشوائية، ولكنه يواجه في لبنان «مؤسسة حاكمة» متوارثة، جينيًا وذهنيًا، وفريدة من نوعها، شؤونها ترعاها «يد خفية» عبر آلية ذكية لتقاسم المكاسب السلطوية، مداورة، بين زعماء الطوائف والأحزاب كائنًا ما كان تيارهم السياسي، بل وتحميهم من أي «تطاول» عليها من خارج المؤسسة.

هذه المناعة التي اكتسبتها المؤسسة السياسية – المذهبية في لبنان، وليس من سمّوا بالمندسّين، أفسدت مظاهرات بيروت المطلبية وشوهت صورتها، مؤكدة أن نظام تقاسم الجبنة أمتن من أن يخترقه دخيل من خارج المؤسسة.

من حق جيل لبنان الصاعد أن يحلم بمجتمع كفاية وعدل في بلد أصبحت فيه «الأدمغة» أبرز صادراته ولقمة العيش أصعب تقديماته. والمؤسف أنه لا تركيبة لبنان الديموغرافية ولا نسيجه الاجتماعي يؤهلانه، كما يتصور جيله الصاعد، لاحتضان ثورة إصلاحية ناجحة وإن أوحت أحداث بيروت أنها باتت على الأبواب.

لبنان أكثر دولة شرق أوسطية تحتاج إلى إصلاحات جذرية. ولبنان آخر دولة شرق أوسطية تجدي الثورات في تغيير نظامها. ولا حاجة للتذكير بأن لبنان اختبر، في القرن التاسع عشر، ثورة اجتماعية ناجحة، قادها مواطن عادي هو طانيوس شاهين، توصلت عامي 1858 – 1859 إلى تحرير أراضي الفلاحين من سيطرة الإقطاعيين الموارنة عليها إلى أن اصطدمت بجدار الطائفية الذي أحبطها وحولها من ثورة شعبية إلى فتنة درزية – مارونية.

لبنان لن يشهد طانيوس شاهين آخر بعد أن أفرز نظام التقاسم المذهبي لمكاسب السلطة طبقة حزبية من المنتفعين من «حسناته». والواقع أن تجربة طانيوس شاهين أثبتت أن للثورة مكابح ذاتية في لبنان تجعلها وصفة لحرب أهلية فحسب.. فمن أين نبدأ بالإصلاح؟

إن كان ثمة مغزى آني لمظاهرات بيروت فقد يكون تجاوزها رؤية الأقطاب السياسيين لأزمات لبنان المزمنة، فلا استبدال جنرال بجنرال في قصر الرئاسة في بعبدا، ولا حكومة تقليدية بحكومة من نفس نسيجها في سرايا بيروت، كافيان لتغيير الوضع. وإذا كانت مناداة بعض المتظاهرين بإسقاط النظام محقة من حيث المبدأ فهي متسرعة في توقيتها ونفتقر إلى البديل المدروس لنظام لبنان المعقد.

لا جدال في أن إصلاح النظام اللبناني بأكمله بات على رأس أولويات أصحاب القرار في بيروت، ولكن أي إصلاح يرجى في ظل تحكم جيل «المربعات الأمنية» في الشأن العام، أي جيل ذهنية الحرب الأهلية المستمرة سياسيًا.

بمنظور دستوري، أي تغيير «ديمقراطي» للطبقة الحاكمة يمكنه أن يمهد لتحديث النظام السياسي، يستوجب استصدار قانون انتخاب نسبي يراعي تركيبة لبنان المذهبية ويصحح تمثيل الناخبين ويكسر تسلط زعامات «المربعات الأمنية» على البرلمان.

قد تشكل مظاهرات بيروت اختبارًا جديًا «لمناعة» زعامات «المربعات الأمنية» حيال أي إصلاح يمس بمواقعها. ولأن أي تغيير دستوري لقانون الانتخاب لا يزال رهين مجلس نيابي يسيطر عليه زعماء هذه المربعات، ولأن سلاحهم الأمضى في التصدي لوصول جيل جديد إلى السلطة هو إدامة الأمر الواقع وتجميده عبر تمديد إثر تمديد لولاية المجلس النيابي.. يصعب استبعاد تكرار انتفاضة بيروت تجربة طانيوس شاهين الفاشلة.