IMLebanon

لبنان: عن متلازمة انتهاك السيادة والفساد!

 

ليس الفساد ظاهرة ينفرد بها لبنان أو «يتميز» بها عن سواه من البلدان، ففي كل المعمورة يتتالى الكشف عن الفضائح واستغلال النفوذ وتصل اللصوصية إلى أرقامٍ فلكية. لكن في البلدان الديمقراطية صوت الناخب يقرر مسار بلد، والتزام الدساتير والقوانين ليس وجهة نظر، ففي فرنسا مثلاً أدت «جوهرة بوكاسا» إلى الحؤول دون عودة جيسكار ديستان إلى الإليزيه، وبعد نحو 4 عقود، فإن «هدية» النائب فؤاد مخزومي إلى المرشح الرئاسي فرنسوا فيّون 3 سترات «هيرميس»، أنهت الأحلام الرئاسية لهذا الأخير.

للفساد في لبنان «قيمة مضافة»، بدليل أن النهب طال المقدرات العامة، جنى أعمار اللبنانيين وما من متهم. تحول كارتل المصارف وامتداداته السياسية إلى عصابة نهبت الودائع. وفيما أعادت «منظومة النيترات» لبنان إلى مجاعة عام 1914، وأعلن إفلاس الدولة يوم التوقف عن تسديد سندات اليوروبوند، فإن أمراً لم يتبدل رغم التحذيرات التي رافقت انهيار تصنيف لبنان الائتماني إلى المستوى «c». وفيما ينخرط السياسيون في مباراة مفتوحة من تقاذف التهم بالمسؤولية، وادعاء مكافحة الفساد عبر مشاريع قوانين، فإن حصيلة «إنجازات» حكومة العهد الأولى التي ضمت وزيراً مكلفاً بمكافحة الفساد، ظلّت دون الصفر.

يضع هذا المعطى المتابع أمام فساد متأصل أساسه فساد سياسي بدأ بالتخلي عن السيادة وهو الأصل المولد لكلِّ فساد. في عام 1969 كان «اتفاق القاهرة» و«فتح لاند» وانشطرت السيادة اللبنانية، ما أسس لبداية مرحلة الانهيارات الكبرى، إثر بصم المجلس النيابي على ذلك الاتفاق من دون الاطلاع عليه. لم يشذ عن إجماع التخلي عن السيادة إلا السياسي المعروف العميد ريمون إده، فدخل لبنان النفق المظلم بدءاً من ضرب العدو الإسرائيلي لمطار بيروت وتدمير 17 طائرة مدنية كانت تشكل أكبر أسطول جوي في المنطقة، إلى الحرب الأهلية ووظائفها في التغطية على بعض ما يدور في الإقليم، والتلاعب السياسي والمالي بالبلد بعد تقسيم الجيش وتوزع القرار، ما تسبب في استدعاء الاحتلال الإسرائيلي ومقاومته ببطولة، إلى أن كان اتفاق الطائف، الذي تلا مرحلة دمار حروب عون الإلغائية، فتوهم اللبنانيون بعده أن البلد دخل مرحلة «سلم أهلي» لا رجعة عنه. غير أن التطورات اللاحقة جعلت كثيرين يترحمون على سنوات الحرب.

أعاد النظام السوري إحكام سيطرته العسكرية ما بعد عام 1987 بعد تلاحق رسائل الاغتيال التي توجت لاحقاً بقتل رينيه معوض أول رئيس جمهورية بعد الطائف. ورغم الافتقار لأي أساس قانوني، بدأ الترويج بأن تكليفاً دولياً، أُعطي لدمشق لإدارة لبنان، يشمل إشرافها على تطبيق وثيقة الوفاق الوطني. أول القوانين الخطيرة كان «قانون العفو عن جرائم الحرب»، فانتقل زعماء الحرب الأهلية التابعون المولعون بأسيادهم من المتاريس إلى مقاعد الحكم، وأقيم تحالف ميليشيات الحرب والمال وبوشر إرساء نظام المحاصصة الطائفي.

أن يكون قرار تنصيب رئيس للجمهورية بيد دمشق، وأن يكون بيد ضابط مخابرات برتبة «مندوب سامي» تعيين رئيس الوزراء والوزراء، والبت في قانون الانتخاب وحتى اللوائح التي ستفوز قبل الاقتراع، والتدخل في القضاء الذي عرف في حقبة تمدد «النظام الأمني» السوري – اللبناني بـ«القضاء العضومي» (نسبة إلى رجلهم آنذاك عدنان عضوم)، فهذا تطلب تعليق العمل بالدستور وتجويف القانون، لأن ما كان سائداً هو مزيج من «قوانين» جيش نظام الاحتلال وبدع تمليها الوقائع والتطورات. تكرس انتهاك السيادة وتحكمت طبقة سياسية نشأت في كنف الاحتلال، فانتهت الحياة السياسية وتطيفت الأحزاب وتمذهبت، وتمت شرذمة الحركة النقابية. وباكراً بدأ تحاصص البلد بقوانين هجينة أملتها مصالح مشتركة لمنظومة الحكم والمحتل، ما دفع الرئيس السابق فؤاد السنيورة إلى القول: «إن الفساد مشرعٌ بالقانون». وبوشر السطو على المال العام مقابل أكبر خديعة كان اسمها «تثبيت سعر الصرف». لقد جيءَ برياض سلامة حاكماً لمصرف لبنان لخدمة مخطط تثبيت سعر الصرف وتمويل عجز الخزينة، وقيل له من أجل ذلك افعل ما تشاء. واللافت أنه منذ عام 1993 حتى عام 2019 كان هناك شخص واحد، تحكم في النقد والقدرات المالية للدولة وموارد البلد وكل مدخرات المواطنين من دون أن يقدم حساباً لأحد.

تحول الفساد إلى منهبة نظمتها طبقة سياسية تنكرت للسيادة والاستقلال، ما أدى إلى العبث بمصير اللبنانيين ومصالحهم، فشاع الابتزاز والرشاوى التي شملت صفقات التلزيمات والمشاريع إلى المستويات الإدارية حتى باتت الرشوة دليل انتساب إلى الكلية الحربية. وشمل الفساد القطاع الخاص فحجزت المصارف نحو 120 مليار دولار من الودائع التي تبخرت، وتحكم في الناس كارتل محروقات ودواء وطحين، وبات «التهريب» المحمي جهاراً عنصر دعم ميزان مدفوعات النظام السوري وتوفير التمويل لـ«حزب الله» و«فيلق القدس»، فأدت المنهبة إلى انهيار عام، من بين أسبابه الرئيسية تضخم الاقتصاد الأسود، وصعود الاقتصاد الموازي للدويلة، على حساب المواطنين، فتقدمت بدعة تسيير شؤون الناس من خارج المؤسسات مع تداعي هيكل الحكم. وعلى الدوام كانت المنظومة تستند إلى حماية خارج محتل أو فائض قوة الدويلة.

الأمر الأكيد أن «انتفاضة الاستقلال» التي سرّعت خروج جيش النظام السوري واستعادة الاستقلال، أخافت قيادتها السياسية الطائفية، فقفزت هذه الأخيرة إلى «الاتفاق الرباعي» والعودة إلى المحاصصة فخسر لبنان فرصة العودة للدستور، وإمكانية الإصرار على بسط سيادة الدولة وقيام حكم القانون، لتشكل مرحلة ما بعد حرب تموز منصة الحزب لقضم السلطة، وتوجت المرحلة بتسوية عام 2016 بحيث بات بعدها القرار اللبناني كلية بأيدي نظام الملالي، وآخر الأدلة مصادرة طهران قرار تأليف حكومة لإدارة الأزمة رغم مرور أكثر من 8 أشهر على التفجير الإجرامي لمرفأ بيروت وسقوط حكومة حسان دياب.

هناك تلازم حقيقي بين استباحة السيادة واختطاف الدولة وارتهان لبنان والفساد، والسؤال الكبير هل ما زال ممكناً تكوين سلطة بديلة مكان سلطة الخراب والارتهان لاستعادة الدولة والاستقلال والمكانة والدور؟

لقد رسمت ثورة تشرين ملامح انتشال البلد عبر مرحلة انتقالية، تقودها حكومة مستقلة قادرة على استعادة الثقة، يتطلب فرضها قيام جبهة سياسية تستند إلى عملٍ سياسي أفقي منظم يلتقي مع حيثيات متعددة موجودة، بديلاً عن محاولات متسلقي تجميع منصات صوتية وهمية، ليتيح ذلك تقدم مطلب رحيل رأس الهرم لإنهاء تغطية الدويلة التي تجاهر بارتباطها بنظام الولي الفقيه، وتستعيد قوى الشرعية حقها باحتكار القوة وحق الإمرة، لتبسط سلطة الدولة على كامل التراب اللبناني والتصدي للأطماع الإسرائيلية والدفاع عن كل اللبنانيين، ليكون متاحاً عودة الحياة السياسية التي تحترم الممارسة الديمقراطية… وبدون ذلك كل ما يجري على مستوى منظومة الحكم لاستعادة نظام المحاصصة والعودة إلى ما قبل «17 تشرين»، سيعمق الأزمة ويفاقم الانهيارات، لأنه سيبقي لبنان تابعاً مسيطراً عليه من الخارج معزولاً ومرذولاً.