تُعزى رغبة رئيس الحكومة حسان دياب في التئام مجلس الوزراء، الخميس، الى سببين: انتظام الانعقاد الدوري له، واستعجال بت خطة الانقاذ المالي بعدما طُلب الى الوزراء في جلسة الخميس المنصرم (16 نيسان) مزيد من الملاحظات.
في الاجتماع الذي حضر جانباً منه، بين عدد من الوزراء والهيئات الاقتصادية الاربعاء (15 نيسان)، خرج دياب بانطباعات ايجابية رغم علامات استفهام اثاروها من حول بنود خطة لا تزال عملياً بلا أب، ويدور الحديث من حولها تارة على انها مسودة وطوراً مشروع جدي، مع انه اكد ان وزير المال غازي وزني هو الذي اعدها. اطرت الهيئات الاقتصادية الخطة، الا انها اقترحت ادماجها في خطة مؤتمر سيدر المنعقد عام 2017، كونه لا يزال يمثل مرجعية الثقة الغربية باصلاح بنيوي حقيقي للاقتصاد اللبناني. ورغم ان خطة الانقاذ تستوحي اقتراحات مؤتمر سيدر على نحو غير كاف، الا ان الهيئات الاقتصادية فضّلت ادراج تلك الاقتراحات في الخطة، بغية اجتذاب مزيد من الثقة اليها، والتعويل على استقطاب مساعدات الى لبنان.
الى ملاحظات الهيئات، اضاف المدير العام لوزارة المال آلان بيفاني امام مجلس الوزراء، معلومات مستقاة من اتصالات مع منظمات ومؤسسات تمويل دولية اطلعت على خطة الحكومة، وسجلت حيالها ردود فعل متباينة يُعتد بها، كونها ارتكزت على ابداء الارتياح اليها: بين المنظمات مَن قال ان في الامكان تقديم المزيد من الاصلاحات، البعض الآخر قدّر ان الخطة ذهبت الى ابعد مما في وسع المجتمع اللبناني تحمّله من اجراءات. كذلك ابلغ بيفاني مجلس الوزراء ان دائني السندات الدولية عبّروا عن ارتياح مماثل بإزاء خطة، يفترض ان تكون في صلب التفاوض الذي سيجريه معهم الاستشاري «لازار» لاقناعهم بهيكلة التسديد. وهو ما اكده دياب امام الهيئات الاقتصادية، متحدثاً عن الحاجة الى الخطة والى استعجال انجازها لمباشرة هذا التفاوض.
يقارب دياب الخطة على انها نهائية ومستعجلة. وهو لاقى ما سمعه من الهيئات الاقتصادية بأن ليس ثمة وقت من الآن كي يُهدر. قيل له – وقال بدوره – ان كل يوم يمر هو خسارة فادحة. كان ورئيس الجمهورية ميشال عون سمعا في وقت سابق من سفراء دول كبرى كلاماً مفاجئاً في تقييم تسارع الانهيار. قيل لهما ان ما حدث قبل ايام في طرابلس (اشتباك مواطنين مع البلدية وحراسها على المساعدات الغذائية) مرشح لأن يُعمّم على كل لبنان، وفي اسرع مما هو متوقع ما لم تستعجل الحكومة المعالجات. لم يتردد بعض هؤلاء السفراء في القول ان حادث طرابلس «عيّنة بشعة» لحجم المشكلة الاجتماعية و«يتعيّن ان تتوقعوا الاسوأ».
جرّاء ذلك يصر رئيس الحكومة على خطته، من غير ايصاد الابواب امام تعديلات عليها لا تمس ركائزها الست المرتبطة باعادة هيكلة مصرف لبنان، والمصارف، والديون، والاصلاح المالي، والخطة الاقتصادية للقطاعات المنتجة، وشبكة الامان الاجتماعي. بيد ان المشكلة الفعلية التي يواجهها تتخطاها، كي تتوقف عند الخيارات الصعبة: من اين يبدأ تصفير ديون الدولة؟
الاعتقاد السائد في الاوساط القريبة منه ان الدولة، المسؤولة الاولى عن هذا الحجم من الديون، هي التي يقتضي تحمّل العبء الاكبر. تليها المصارف والمساهمون الكبار فيها. ثم يأتي دور المودعين. هذا الترتيب عبّر عنه دياب امام الهيئات الاقتصادية بقوله، اربع مرات على التوالي، ان الحكومة ليست في صدد «قص» ودائع اللبنانيين، مع تأكيده ان الخطة لا تأتي على الهيركات. غير انه لم يقدّم الاجابة الواضحة، العلنية على الاقل، حيال الطريقة المعتمدة لتصفير الديون والخسائر، الحتمي للخروج من المأزق النقدي، والضروري لاطلاق الاصلاح البنيوي.
كذلك من غير الواضح اي خيار ستتخذه الحكومة بازاء سعر صرف الليرة، وهو احد المصاعب التي تواجهها. في داخلها يدور الجدل بين قائلين بتثبيته رغم التداعيات المكلفة التي يتكبدها مصرف لبنان وقد اضحى في وضع دقيق مع تصاعد خسائره والتراجع الخطير في احتياطه، وبين اطلاق التسعير على غاربه تبعاً للسوق التي تتحكم فيه صعوداً وهبوطاً وتالياً سبل ادخال العملات الصعبة الى البلاد.
في اجتماع الهيئات الاقتصادية برئيس الحكومة، ارتأى بعض الحاضرين وصف خطة الانقاذ المالي بأنها اول خطة اصلاحية مالية متكاملة منذ اتفاق الطائف. قال ان الخطة تذكّره بمشروع المهندس المعماري الفرنسي ميشال ايكوشار عام 1966، الذي اقترح اعادة تنظيم بيروت والاوتوستراد الدائري من حولها يمتد الى كسروان شمالاً وعاليه شرقاً وخلدة جنوباً. مع ان مهمة ايكوشار حينذاك ارتبطت حصراً بمخطط تنظيم مدني واستملاكات، وتوفير اوسع بقعة خضراء في العاصمة، الا ان السابقة الفعلية للاصلاح، في بعده الاجتماعي على الاقل، كان مع بعثة «ايرفد» برئاسة الاب لوي جوزف لوبريه في عهد الرئيس فؤاد شهاب.
سفراء عواصم كبرى لعون ودياب: ما حدث في طرابلس عيّنة بشعة ستعمّ كل لبنان
بينما تركزت مهمة الاب لوبريه وبعثة «ايرفد» ما بين عامي 1959 و1964 على التنمية الاجتماعية في كل المناطق اللبنانية، واخصها الاطراف النائية، من ضمن برنامج اصلاح اداري – اجتماعي، لتعذّر الخوض في اصلاح سياسي معقد آنذاك، اصطدم بالمشكلة التي يواجهها لبنان اليوم، وهي افتقار الدولة الى الارقام والاحصاءات الجدية والفعلية. لم تكن متوافرة، فكمنت صعوبة المهمة في جمعها بغية تحديد مكامن الخلل في البنيتين الاجتماعية والاقتصادية، سعياً الى ايجاد الحلول لها. لم تكن البلاد مفلسة، ولا تواجه ازمة نقدية حادة، ولا انهياراً اقتصادياً.
لم يكن لبنان حينذاك بعيداً في بناه العميقة مما هو عليه الآن: متشّعب الولاء السياسي والانتماء العقائدي والانتساب الطائفي والمذهبي، مثقل بتشابك المصالح المحلية والدولية، وتسوده فروق اقتصادية واجتماعية جوهرية. التمييز الرئيسي عن تلك الحقبة، انه لم يكن بين يدي طبقة سياسية نهبته، وسرقت امواله العامة، واستولت على قطاعاته، وجرّته الى الافلاس، ولديها شركاء اساسيون مختصون ضالعون في لعبة السطو على المال العام وتسهيل الوصول اليه.
طلب شهاب من رئيس غرفته العسكرية النقيب احمد الحاج وضع خريطة بمرافق الخدمات في كل المناطق، تشمل المستشفيات والمستوصفات والمدارس وشبكات المياه والكهرباء والهاتف. بعد عشرة ايام تسلّم خريطة اجتماعية تفصيلية رُفِعت الى الحائط في مكتبه، ففوجىء الرئيس. زُرعت دبابيس ذات رؤوس ملونة تشير الى مراكز انتشار كل من قطاعات الخدمات تلك في المحافظات. فإذا معظم الدبابيس تتجمع في بيروت وجبل لبنان، وتشكّل فيهما كرات ملونة. أنبأت بافتقار الاطراف والبلدات النائية في الشمال والجنوب والبقاع اليها تماماً. رد الفعل الفوري لشهاب كان: «معقول؟ الآن فهمت السبب الذي دفع الدنادشة الى حمل السلاح».
بانقضاء 56 عاماً، لم تعد الصعوبات تكمن في ارقام واحصاءات غير متوافرة، لاكتشاف المشكلة والتحقق من سبل معالجتها، والبناء على معطياتها في اي خطة اصلاحية او اقتصادية او مالية. ثمة ارقام موجودة، وارقام محجوبة، وارقام مختفية، وارقام متلاعب بها او مزورة، وارقام بقلم رصاص واخرى بحبر ازرق.