لا يمكن بعد اليوم السّكوت عمّا يجري في لبنان. لن ندخل في توصيفات تشاؤميّة، لسنا هنا بصدد تعدادها فالكلّ يعرفها. والنّاس ليسوا بحاجة إلى مزيد من النّقّ والشقّ واللقّ، بل ما يحتاجون إليه هو الإضاءة على الحلول الواقعيّة والمنطقيّة والعقلانيّة ليستطيعوا متابعة حياتهم بشكل طبيعي، كما اعتادوا على ذلك. فهل سينتظر الشعب اللبناني مسار الأمور الطبيعي للتغيير؟ أم أنّ حركة النّاس ستسبق هذا المسار لتفرض أمرًا واقعاً جديداً قد يكون مرتقَباً؟
لا يبدو حتّى الساعة أنّ مسار الأمور السياسيّة قد يتّجه إلى الإصطلاح. وغالب الظنّ أنّ الحكومة تحوّلت إلى حكومة تصريف أعمال بفعل قدرة التعطيل التي مارستها منظّمة «حزب الله»، وبمباركة من المنظومة الحاكمة بالمطلق. لأنّه لو كان عكس ذلك صحيحاً لكانت اجتمعت الحكومة اليوم اليوم وليس غداً. فهذا يعني أنّ المنظومة مجتمعة ما زالت مصرّة على نهجها نفسه. وباتت محترفة ممارسة فنّ الديموقراطيّة التعطيليّة التي ابتدعتها منذ العام 2005 وحتّى اليوم. وذلك على أضرحة النّاس الإقتصاديّة في ضوء ارتفاع سعر الدّولار الذي على ما يبدو أنّه نتيجة لهذا النهج التعطيلي. وهذا ما ينبئ بالمزيد من الإرتفاع حدّ الجنون. لأنّ التعطيل سيستمرّ طالما يؤمّن استمراريّة لهذه المنظومة في حكمها. وبالطبّع هي غير مهتمّة بحياة النّاس.
ومسار التغيير سيكون شاقّاً جدّاً لأنّنا نتعامل مع منظومة مدانة بجريمة قتل شعب بالكامل، وصولاً حدّ قتل الوطن الذي هو روح هذا الشعب. وبالطّبع الخوف ممّ، يستطيعون قتل الروح لا الجسد. لذلك، يجب العمل ليل نهار للقضاء على هذه المنظومة. لكنّ الخطأ الذي ارتُكِبَ في العام 2019 كان بالتشجيع من قبل دُعاة التغيير على ﺣﺸﺪ القوى ﺍﻟﺸﻌﺒﻴﺔ. وغالباً ﻻ ﻧﺮى دوﻣﺎً ﺑﻮﺿﻮح ﺃﺳﺒﺎﺑﻬﺎ وﺃﻫﺪاﻓﻬﺎ، ﻷن ﻫﻨﺎﻙ ﺃﺷﻜﺎلاً ﻣﻌﻴّﻨﺔ ﻣﻦ ﺍﻟﺘﻼﻋﺐ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﻲ، ويظهر ﺃﻧﻬﺎ ﺗُﺴﺘَﻐﻞّ ﺗﺄﻳﻴﺪﺍً ﻟﻤﺼﺎﻟﺢ ﺧﺎﺻﺔ. ولعلّ هذا ما حصل مع بعض المجموعات التي دعت إلى التغيير.
لذلك، ﻣﻦ ﺍﻷﻓﻀﻞ اﻟﺤﻔﺎظ ﻋﻠﻰ ﻟﻌﺒﺔ اﻟﺴﻠﻄﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺴﻤﺢ ﺑﺎﻟﺤﻔﺎظ ﻋﻠﻰ ﺗﻮازن اﻟﻘﻮى ﺑﻴﻦ اﻟﻤﺠﻤﻮﻋﺎت اﻟﻤﺨﺘﻠﻔﺔ. من هنا، كان نجاح حزب القوّات اللبنانيّة الذي استطاع أن يفرض معادلته في ميزان القوى السياسيّة. وذلك لأنّه تمسّك بطروحاته كلّها منذ أن دعا رئيسه في 2 أيلول 2019 إلى تشكيل حكومة متخصّصين مستقلّين. وصولاً إلى تمسّكه اليوم بمبدأ الانتخابات النيابيّة كمدخل حقيقي للتغيير. والهدف للوصول إلى وطن ينعم بالسلام ليكون مساحة آمنة لأبنائه كلّهم على اختلاف انتماءاتهم الحضاريّة.
لكن ّاﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ رﻓﻴﻘﺔ ﻣﻼزﻣﺔ ﻟﻠﻌﺪالة واﻟﺮﺣﻤﺔ. فهذه اﻟﺜﻼﺛﺔ ﻣﻌﺎً، مهمّة ﻟﺒﻨﺎﺀ ﺍﻟﺴﻼم، وﻣﻦ ﻧﺎﺣﻴﺔ أﺧﺮى، تمنع ﻛﻞّ ﻣﻨﻬﺎ الأخرى ﻣﻦ أن تتغيّر. فنجاح هذه المنظومة بتعطيل الحقيقة، إن في انفجار الرابع من آب، وإن في التدقيق الجنائي، وغيرها من الأمور الجوهريّة، قد حالت دون إحلال السلام في لبنان، وهذا ما جعل اللبنانيّين كلّهم بحالة حرب ولو مستترة. مع العلم أنّه لا ينبغي، في الواقع، أن تقود اﻟﺤﻘﻴﻘﺔ اﻟﻰ الإﻧﺘﻘﺎم ﺑﻞ اﻟﻰ اﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ واﻟﺘﺴﺎﻣﺢ. ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ ﻫﻲ اﻃﻼع ﺍﻟﻌﺎﺋﻼت اﻟﺘﻲ ﻣﺰّﻗﻬﺎ اﻟﺤﺰن ﻋﻠﻰ ﻣﺎ ﺣﺪث ﻷﻗﺎرﺑﻬﻢ اﻟﻤﻔﻘﻮدﻳﻦ في انفجار الرابع من آب مثلاً.
فغالباً ما يتطلّب السّبيل اﻟﻰ ﺗﻌﺎﻳﺶٍ ﺃﻓﻀﻞ اﻻﻋﺘﺮﺍف ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻴّﺔ ان ﻳﺄﺗﻲ نﻵﺧﺮ ﺑﻤﻨﻈﻮر ﺷﺮﻋﻲّ، ﻋﻠﻰ اﻷﻗﻞّ ﺟﺰﺋﻴﺎً، اي ﺑﺸﻲء ﻳﻤﻜﻦ ﻗﺒﻮﻟﻪ، ﺣﺘﻰ اذا ﻛﺎن ﻗﺪ ارﺗﻜﺐ ﺧﻄﺄ او ﺗﺼﺮّف ﺑﺸﻜﻞ ﺳيّئ. ففي الواقع يجب ألّا ﻧﺴﺠﻦ اﻵﺧﺮ ﻓﻲ اﻗﻮاﻟﻪ او اﻓﻌﺎﻟﻪ، وﻟﻜﻦ ﻳﺠﺐ ان ﻧﻌﺘﺒﺮﻩ وﻓﻘﺎً ﻟﻠﻮﻋﺪ اﻟﺬي ﻳﺤﻤﻠﻪ ﻓﻲ ذاﺗﻪ. وهذا هو الوعد الذي قطعته هذه المنظومة أمام اللبنانيّين كلّهم الذي يكمن بالقضاء عليهم بما أتاحته لنفسها من وسائل، حتّى إنّها ولوقاحتها، جعلت القانون أبرزها.
وﻣﺠﺘﻤﻊ ﺗﻜﻮن ﻓﻴﻪ ﻗﻴﻤﺔ العيش ﻣﻌﺎً ﻛﺒﺸﺮ اﻛﺜﺮ اﻫﻤﻴّﺔ ﺑﺎﻟﺘﺄﻛﻴﺪ ﻣﻦ اي قيمة ﺛﺎﻧﻮﻳّﺔ، ﺳﻮاء أﻛﺎﻧﺖ الكرامة الإنسانيّة المرتبطة بوجود السلاح غير الشرعي كضامن لها عوض أن تكون الدّولة الضامن الوحيد، أو سواء بارتباط إيديولوجيّ عضويّ على حساب وجوديّة الوطن ككلّ. فالسلام ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﻲ ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﺗﺤﻘﻴﻘﻪ اﻻّ ﻋﻨﺪﻣﺎ ﻧﻜﺎﻓﺢ ﻣﻦ اﺟﻞ اﻟﻌﺪاﻟﺔ ﻣﻦ ﺧﻼل اﻟﺤﻮار واﻟﺴﻌﻲ ﻟﺘﺤﻘﻴﻖ اﻟﻤﺼﺎﻟﺤﺔ وصولاً إلى الشراكة الكاملة في وجوديّة وطن يحمي الجميع. وهذا ما تسعى هذه المنظومة على تدميره بالمطلق.
لذا، ما من ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ لأيّ ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﺮﻗﻴّﺔ وﻻ ﺣﺘﻰ لأيّ ﺑﻠﺪ اذا ﻛﺎن اﻟﺪاﻓﻊ اﻟﺬي ﻳﻮﺣّﺪﻫﻢ وﻳﺠﻤﻌﻬﻢ وﻳﻐﻄّﻲ الإﺧﺘﻼﻓﺎت ﻫﻮ الإﻧﺘﻘﺎم واﻟﻜﺮاﻫﻴّﺔ. وعلى ما يبدو أنّ هذه المسائل تشكّل العماد الأساسي لهذه المنظومة التي أخذت شعبها إلى جهنّم. لكن نحن كقوى تغييريّة حقيقيّة ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ ان ﻧﺘّﻔﻖ وﻧﺘّﺤﺪ ﻋﻠﻰ الإﻧﺘﻘﺎم وان نفعل ﻣﻊ المنظومة المجرمة ﻣﺎ فعلته هي ﻣﻌﻨﺎ، وﻧﺨﻄّﻂ ﻟﻔﺮص اﻧﺘﻘﺎم ﺗﺤﺖ اﺷﻜﺎل ﻗﺎﻧﻮﻧﻴّﺔ ﻇﺎﻫﺮﻳّﺎً. فهكذا ﻻ نكسب ﺷﻴﺌﺎً ﻭﻧﺨﺴﺮ ﻛﻞّ ﺷﻲﺀ ﻋﻠﻰ اﻟﻤﺪى اﻟﻄﻮﻳﻞ؛ كي لا نعيش الحرب الصغيرة ونحملها في دواخلنا لئلا تصبح ناراً مستعِرَة في القلب فيستحيل إطفاؤها لاحقاً.
كما أنّه ﻻ ﻳﻤﻜﻨﻨﺎ أن ﻧﺴﻤﺢ ﻟﻸﺟﻴﺎل اﻟﺤﺎﻟﻴّﺔ واﻵﺗﻴﺔ ﺑﺄن ﺗﻔﻘﺪ ذاﻛﺮة ﻣﺎ ﺣﺪث. فهذه اﻟﺬاﻛﺮة ﻫﻲ اﻟﺘﻲ ﺗﻀﻤﻦ وﺗﺤﻔّﺰ ﻋﻠﻰ ﺑﻨﺎﺀ ﻣﺴﺘﻘﺒﻞ أﻛﺜﺮ ﻋﺪلاً وأﺧﻮّة. وما ﻧﺤﻦ ﺑﺤﺎﺟﺔ إليه هو المحافظة على ﺷﻌﻠﺔ اﻟﻮﻋﻲ اﻟﺠﻤﺎﻋﻲ، لتشهد ﻟﻸﺟﻴﺎل اﻟﺼﺎﻋﺪة ﻋﻦ رﻋﺐ ﻣﺎ ﺣﺪث وﺗﻮﻗِﻆ وﺗَﺤﻔﻆ ﺑﻬﺬﻩ اﻟﻄﺮﻳﻘﺔ ذﻛﺮى ﺍﻟﻀﺤﺎﻳﺎ، ﺣﺘﻰ ﻳﺘﻘﻮّﻯ ﺍﻟﻀﻤﻴﺮ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ ﺑﺎﺳﺘﻤﺮار ازاء ﻛﻞّ رﻏﺒﺔ ﻓﻲ اﻟﻬﻴﻤﻨﺔ واﻟﺪﻣﺎر ضدّ هذه المنظومة. لأنّه من المستحيل التّوصّل إلى طرق ﺗﻌﺬﻳﺐ تعادل ﻣﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮن اﻟﻀﺤﻴّﺔ ﻗد عانته. فالإنتقام ﻻ ﻳﺤﻞّ ﺷﻴﺌﺎً.
من هنا، ﻟﻢ ﻳﻌﺪ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻨﺎ اﻟﺘﻔﻜﻴﺮ ﻓﻲ اﻟﺤﺮب وكأنّها حلّ، ﻷنّ اﻟﻤﺨﺎﻃﺮ ستكون ﻋﻠﻰ اﻷرﺟﺢ أﻛﺒﺮ ﻣﻦ اﻟﻤﻨﻔﻌﺔ اﻻﻓﺘﺮاﺿﻴّﺔ اﻟﻤﻨﺴﻮﺑﺔ إﻟﻴﻬﺎ. وإزاء ﻫﺬا اﻟﻮاﻗﻊ، ﻣﻦ اﻟﺼﻌﺐ اﻟﻴﻮم اﻟﺘﻤﺴّﻚ ﺑﺎﻟﻤﻌﺎﻳﻴﺮ اﻟﻌﻘﻼﻧﻴّﺔ اﻟﺘﻲ ﻧﻀﺠﺖ ﻓﻲ ﻗﺮون أﺧﺮى لنتحدّث ﻋﻦ «ﺣﺮب ﻣُﺤِﻘّﺔ» ﻣﻤﻜﻨﺔ. ﻻ ﻟﻠﺤﺮب ﻣﺮّة أﺧﺮى. فدوافع اﻟﺴﻼم ﻫﻲ أﻗﻮى ﻣﻦ أي ﺣﺴﺎب ﻟﻠﻤﺼﺎﻟﺢ اﻟﺨﺎﺻّﺔ وأﻗﻮى من أيّ ثقة ﻓﻲ ﺍﺳﺘﺨﺪام اﻟﺴﻼح. وإن استمرّ هذا الظلم بحقّ النّاس فستنفجر كنبع المياه المسجون في قلب الصخر، وعندها لن يتمكّن لا السلاح ولا القضاء ولا جبروت هذه المنظومة من إيقاف جرفها. ومن له أذنان للسماع… فليسمع !