لدى لبنان خيار آخر غير الموت. إنّه خيار ترسيم الحدود البحريّة مع إسرائيل بدل البقاء في اسر «الجمهوريّة الإسلاميّة» في ايران وما تريده. يفترض في لبنان ان يمارس خيار رفض البقاء في الأسر الإيراني قبل أسابيع قليلة تفصل عن بدء استخراج إسرائيل الغاز من حقل كاريش القريب من المياه الإقليميّة اللبنانيّة لنقله إلى أوروبا. لكنّ السؤال الكبير هل لبنان قادر على ممارسة الخيار الآخر الذي يعني رفضه الإنتحار؟ الجواب البسيط والمبشار: إنّه عاجز عن ذلك.
يبدو أنّ إسرائيل ستباشر قريبا استخراج الغاز من كاريش في ظلّ تفاهمات مع غير دولة من دول المنطقة، بينها مصر، وبوجود غطاء أوروبي وآخر وأميركي يعبّران بوضوح، ليس بعده وضوح، عن التغييرات التي شهدها العالم في ضوء الغزو الروسي لبلد أوروبي اسمه أوكرانيا.
هناك سؤالان مطروحان قبل بدء إسرائيل تصدير الغاز من كاريش. الأوّل هل تتوصل إلى اتفاق في شأن ترسيم الحدود البحريّة مع لبنان والآخر هل استخراج الدولة العبريّة الغاز من دون ترسيم الحدود مع لبنان سيعني لجوء «حزب الله» إلى التصعيد مع ما يتضمنه ذلك من مخاطر؟ ليس سرّا أن هذه المخاطر كبيرة ويمكن ان تسفر عن حرب في ضوء التهديدات الذي وجهها أخيرا مسؤولون إسرائيليون إلى لبنان.
تستخرج إسرائيل الغاز منذ فترة من حقول أخرى بعيدة عن المياه اللبنانيّة في ظلّ زيادة الحاجة العالميّة إلى الطاقة وإصرار أوروبي على التخلص تدريجا من الإعتماد على الغاز الروسي. صار الغاز الإسرائيلي جزءا من الأمن الأوروبي في وقت لم يعد في أوروبا من يريد السماع بروسيا وغازها ما دام على رأسها فلاديمير بوتين. لم تعد من ثقة بالرئيس الروسي الغارق في الوحول الأوكرانيّة والذي لم يترك امامه سوى باب التصعيد العسكري والسياسي.
ستصدّر إسرائيل مزيدا من الغاز إلى أوروبا بعد ان يصبح حقل كاريش جاهزا في أيلول – سبتمبر المقبل. سيكون اشعال «حزب الله»، أي ايران، حربا اقليميّة بمثابة مغامرة كبيرة غير محسوبة النتائج. ستكون مثل هذه الحرب كارثة حقيقية على لبنان الذي تستطيع إسرائيل تدمير كل ما بقي من بنيته التحتيّة.
سيبقى لبنان، للأسف، يتفرّج على ما يدور في مكان قريب منه وفي المنطقة والعالم. سيلهي لبنان نفسه بالقشور والكلام عن العزّة والكرامة واهمّية «المقاومة» ومسيّراتها في سياق عملية تهجير ممنهجة للمواطن اللبناني، خصوصا للمسيحي. مثل هذا الكلام قد لا يكون دقيقا في حال قررت ايران دفع «حزب الله» الذي ليس سوى فصيل في «الحرس الثوري» إلى مغامرة عن طريق مسيرات أو صواريخ تطلق من لبنان في اتجاه كاريش. مثل هذا الإحتمال «جدّي» في تقدير مسؤولين إسرائيليين.
بدل الإقدام على خطوات تتسم بروح المسؤولية مع موضوع ترسيم الحدود، سيظلّ في لبنان من يردّد شعارات تغني عن مواجهة الواقع والحقيقة المؤلمة المتمثلة في انهيار بلد عن بكرة ابيه وإفقار شعبه في كلّ مجال من المجالات بدءا بسرقة ودائع المواطنين في المصارف… وصولا إلى البحث عن رغيف الخبز والكهرباء مرورا بالقضاء على بيروت ودورها وتدمير النظام التعليمي والإستشفائي… وسلطة القضاء المستقلّ.
سيبقى حسن نصرالله الأمين العام لـ»حزب الله» يطلق التهديدات التي تشمل منع إسرائيل من استخراج الغاز الذي في حقولها. كلّ ما فعله، أو سيفعله، يتمثّل في تحقيق مزيد من الإنتصارات على لبنان واللبنانيين. سيبقى لبنان عاجزا عن القيام بايّ خطوة تستهدف الإستفادة من ثرواته في البحر.
غي غياب القدرة على توقع ما الذي يمكن ان تقدم عليه «الجممهوريّة الإسلاميّة» في ايران، تزداد العزلة اللبنانية ويزداد انكفاء الدولة على ذاتها. ليست لدى الثنائي الرئاسي المتمثل بميشال عون وجبران باسيل أي رغبة في تشكيل حكومة جديدة. يريد الثنائي فرض شروطه على رئيس الوزراء المكلّف نجيب ميقاتي في وقت لدى ميقاتي حسابات أخرى تختلف كلّيا عن حسابات ميشال عون وجبران باسيل اللذين لا يستطيعان تصوّر انّهما جزء من الماضي وانّ عليهما مغادرة قصر بعبدا في غضون ثلاثة اشهر من الآن…
في وقت تبدو إسرائيل، مدعومة من المجتمع الدولي، مصرّة على استغلال الغاز في كاريش وغير كاريش، يبدو لبنان مصرّا على الإستمرار في اتباع سياسة منطق اللامنطق التي تعني البقاء في الحضن الإيراني. ليس من قوّة، أقلّه في المدى المنظور، تستطيع إخراجه من هذا الوضع الذي تعني إصرارا على الإنتحار. إلى متى يستطيع لبنان العيش في ظلّ الرغبات الإيرانيّة، با في ذلك رغبة طهران في استخدامه ورقة في الضغط على اميركا؟
واضح انّ ليس مطلوبا سوى تحقيق مزيد من الإنتصارات الإيرانيّة على لبنان وإبقاء موضوع الترسيم معلّقا. ليس مطلوبا من لبنان اكثر من ان يكون متفرّجا على استخراج الغاز من كاريش فيما هو غارق في أزمات لا تنتهي. تجعل هذه الأزمات العبثية المتلاحقة اقصى طموح للمواطن اللبناني العيش في ما يشبه نظام «الإمارة الإسلاميّة» على طريقة «طالبان» الذي فرضته «حماس» في قطاع غزّة منذ منتصف العام 2007 أو دويلة الحوثيين في اليمن الشمالي التي عاصمتها مدينة عريقة مثل صنعاء منذ أيلول – سبتمبر 2014… أو المناطق التي تسيطر عليها ميليشيات «الحشد الشعبي» في العراق منذ ما يزيد على عشر سنوات.
يموت لبنان، علما انّ لديه خيارا آخر غير الموت. أخطر ما في الأمر ان البلد عاجز عن ممارسة هذا الخيار الآخر الذي يتمثّل في الدفاع عن مصالحه ومصالح شعبه وترسيم الحدود مع إسرائيل اليوم قبل غد استنادا إلى القانون الدولي.
يموت لبنان، في ظلّ خوف من حرب يمكن ان تفتعلها ايران، وهو شاهد على اسرائيل تستخرج غازها بينما محظور عليه اتخاذ أي مبادرة من أي نوع من اجل الإستفادة يوما من ثرواته… اللهمّ إلّا اذا كان عليه خوض حرب خاسرة سلفا.