الواقع الكارثي المأساوي الانهياري الذي أوقعوه على لبنان واللبنانيين مع كل المقيمين على أرضه جعل اللبناني في حالة مخاطبة العقول لمن ما زال فيهم عقول يفكرون بها، وهي نوعان منها ما يقود للخير والمحبة وتعزيز الإخوة وإعلاء راية الوطن وأمن واستقرار المواطنين، ومنها ما يقود إلى الشر والصراعات والنزاعات والحروب وما ينتج عن ذلك من خراب وتدمير. وفي ذاكرة اللبنانيين النوعين من هذه العقول، في العام ١٩٥٨ أخذت عقول الشر لبنان إلى ما عرفت بثورة ١٩٥٨، وبعدها مباشرة أخذت عقول الخير لبنان الى الأمن والأمان وإعادة بناء الدولة على أسس دستورية وقانونية وبناء مؤسسات لدولة عصرية لا لزعيم ولا لحزب ولا لطائفة، وبناء جيش وقوى أمنية فرضت الأمن والأمان والطمأنينة بالفرقة ١٦ وبقضاء عادل ومستقل، والإنماء المتوازن الذي أوصل المياه والكهرباء إلى آخر منطقة من مناطق لبنان، وبالإجمال تركّزت دولة خالية لحد بعيد من الفساد والافساد ومن البيع والشراء بالوطن وعقد الصفقات إلا ما ندر من كل هذه النواقص والمفاسد، وكان القوي والأقوى هو الدولة ودستورها الذي عبّر عنه رئيس البلاد في ذلك الزمن القريب غير البعيد أواخر خمسينات القرن الماضي وأوائل ستيناته بالكتاب «شو بيقول الكتاب» وعاد الوطن اللبناني دولة عصرية وحديثة وأصبح قبلة الشرق والغرب وعاصمته بيروت المحروسة بعطاءاتها الفكرية والثقافية والتعليمية والاستشفائية والخدماتية وبمدارسها وجامعاتها وصحفها ومكتباتها ومراكز الطباعة لديها وبالنوادي وحتى بالمقاهي التي اشتهرت إقليمية وعالمية وكانت ملتقى الكتّاب الكبار والشعراء العظام والفنانين من كل المحيط العربي وحتى العالمي، وأصبحت قلعة بعلبك التي بناها الرومان مسرحا لفنون لبنانية وعربية وعالمية وتوسّع مثيلاتها إلى مناطق لبنانية أخرى شمالا وجنوبا، سهلا وجبلا، وسادت السيادة اللبنانية مقرونة بسيادة الدستور والقوانين اللبنانية، ولم يشهد لبنان آنذاك هرطقة ما فرض عليه في ظل الصغار الذين ركبوا على كراسي الحكم والحكومات، لم نسمع بميثاقية كاذبة وديمقراطية توافقية خادعة، وحقوق الطائفة والمذهب والحكم والتمثيل الطائفي للأقوى بطائفته في استعادة لمفهوم السيطرة للأقوى في ظل الامبراطورية الرومانية وغيرها، ولم نسمع بالرئيس القوي والحزب القوي وكان الفيصل في كل ذلك الجمهورية اللبنانية والدولة والرئيس لا بعضلاته ولا بحزبه ولا بعائلته ولا بإخضاع الدولة للمحازبين والأزلام والأتباع من طائفة المسؤول ولا من مذهبه بل كان لبنان لكل اللبنانيين والأقوى من الرؤساء والمسؤولين للأنقى الذي لم يسجل عليه ولا على أفراد عائلته شبهة الفساد والافساد وتجارة المخدرات وكل ما نراه في هذا الزمن الأسوأ والأكثر نهبا لموارد الدولة والأكثر فسادا وإفسادا ووضع الوطن والمواطنين والمقيمين على أرضه في جهنم الحمراء التي ختموا عهودهم بها، وبات الوطن كله على مشارف الزوال والانقراض بحيث لم تستطع أكبر قوى العالم منذ الفينيقيين أن توصل لبنان الى ما هو عليه الآن لا بفضل المشاريع الأجنبية وهي جميعها انتصر عليها لبنان واللبنانيين وإنما بيد الذين سيطروا على لبنان ما بعد الحرب الأهلية التى اندلعت بين اللبنانيين العام ١٩٧٥/ وتحديدا بعد إنهاء هذه الحرب الداخلية وأخطرها الاحتلال الإسرائيلي العام ١٩٨٢/ واتفاق الطائف الذي أوقف الحرب ومليشياتها بهمّة القادة العرب بمدينة الطائف بمملكة الخير المملكة العربية السعودية.
وأعود كأي لبناني إلى مخاطبة العقول، والإنسان عقل، والعقل منحة من الله لبني البشر وبه يحسن التدبّر في شؤونه ومسؤولياته وأهمها إدارة شؤون البلاد والعباد لمن يحمل تبعاتها ويتولى شؤونها ويكتشف حقائق الأمور التي تقوده لمعرفة من هو ومعرفة بوجوده وقيمة هذا الوجود والمسؤوليات خيرا أم شرا.
والآن وفي هذا الزمن المتفلّت من عقاله ومن كل ضوابطه ودستوره وقوانينه ومن أهم تنظيم بشري حديث وهو الدولة ودورها ومقتضياتها وواجباتها تجاه مواطنيها في تأمين المأكل والملبس والمشرب والأمن والأمان والتعليم والطبابة والدفاع عن الأرض والعرض والقيم وحماية الوطن والمواطن في كل احتياجاته المعيشية، المواطنون اللبنانيون بغالبيتهم يتساءلون: ماذا فعلتم بالوطن اللبناني الجميل بكل ما فيه؟ وماذا فعلتم وأنتم فاعلون بالدولة التنظيم الإنساني الأرقى للأمم والدول؟ وما هي بدائلكم؟! هل عندكم غير إقامة الدويلات والكانتونات الطائفية والمذهبية والعنصرية والصراعات والاقتتال والحروب المستدامة، وقد سبقكم من حمل لكم الجواب عندما سُئل إلى أين لبنان؟، قالها بالفم الملآن إلى جهنم الحمرا، بئس هذا المصير وبئس هذا القاع الجهنمي الذي وضع لبنان الوطن والمواطنين فيه دول العالم وشعوبها يحلّقون علوّا لاستمرارية اكتشاف الفضاء والطلوع إليه وكشف أحواله بالعلم والمعرفة ونحن نقبع بنار جهنم وبالقاع، تذكّروا أن الأمم تقوم على ثلاث أعمدة ذهبية هي: الوطن، الدولة، الشعب. ضرب أي واحدة منها تعني إزالة وطن والقضاء على الدولة، وقتل شعب أو تهجيره كما هو حال المواطنون العرب في بلدانهم ولتنظر الطبقة بل الزمرة المتحكمة بالبلاد والعباد إلى أي مصير ذاهبون؟! أليس من حكمة وطنية وحكماء وعقلاء؟!
أليس من عقل الرحمان الذي يبني ويطوّر بديلا عن عقل الشيطان المدمّر والمخرّب؟!
صراعاتكم حول الرئاسة وغدا حول الحكومة وتأليفها وتشكيلها بتوزيع الحصص، يؤكد أننا نفتقد رجال حكم وحكومات ويبقى كل تكتل أسير مصالحه الخاصة وارتباطاته الخارجية، أما الوطن وعيش المواطن وكرامته أمور لا تهمّكم، المجاعة التي دخلت كل بيت وكل عائله لا تعنيكم، حجز أموال الناس غير الملوثة كأموالكم لا يعنيكم، الغلاء الفاحش وسقوط العملة اللبنانية لا يعنيكم، والسرقات والقتل والاغتيالات وتدمير المرفأ وضحاياه وجرحاه بالمئات لا يعنيكم، معركة الرئاسة ليست معركة الوطن واللبنانيين، انها معركتكم لمصالحكم ونفوذكم وللفوضى العامة، وهي في حقيقتها موت وطن وقتل شعب، وأخيرا، أما من يقظة ضمير تنقذ البلاد والعباد؟! وتكفي اللبنانيين شر حمامات الدم التي تبشّرون بها.