أضحت الجمهورية اللبنانية في وضع سياسي – أمني – إقتصادي – مالي – إجتماعي مأزوم، وبات الشعب اللبناني أمام مصير قاتم يغلب عليه إختراق القوانين ومفاهيم يغلب عليها القلق على المصير الأسود المُنتظر، وكذلك ترقّب المحطات الصعبة التي تقف أمام الشعب نظراً لحجم الفراغ الذي يطال كل مؤسسات الجمهورية تباعاً. حالياً وإستناداً إلى العديد من الدراسات التي تُجريها مراكز الأبحاث اللبنانية والعربية والأجنبية هناك شِبه إجماع وخلاصة وحيدة «إستحالة الخروج من الأزمات المفتعلة التي وصلتْ إليها الجمهورية في ظل هذه الطبقة الحاكمة الفاجرة» التي تُمْسِك كل مقدرات الدولة المدنية والعسكرية عنوانها: التضليل – السرقة – السيطرة العشوائية ضرب الديمقراطية… وما عدا ذلك من أساليب تتنافى والأنظمة الديمقراطية.
وفق «علم السياسة ومبادئه وأبوابه» تبدأ الأزمات في ظل غياب المسؤولية والضمير المهني وغياب مبدأ المساءلة لتشمل الفساد بكل عناصره البشعة بما فيه فساد السلطة بممارستها وفساد المجتمع بإعتماد مبدأ التضليل الممنهج وتنامي تقرّحات فكرية غالباً ما تصيب النشأة من الجيل الصاعد فيُحتال عليه إما بتوظيف عشوائي أو بتمرير منظومة سياسية عنوانها «فرِّق تسُدْ» أو ما يُعرف بعلم السياسة «شِراء الذمم»، وهذا ما أوصل الجمهورية اللبنانية إلى مرحلة الإنحدار لدى الشعب والإدارات وها هي اليوم في حالة الإضراب المفتوح والشعب اللبناني في حالة اليأس والقنوط… وحالة اليأس هذه بإمكانها توليد حالة من التخلّي عن الدور التغييري المفترض ممّا يؤدّي بالأمر إلى الإلتحاق بغباء السلطة نتيجة الأمر الواقع المفروض رغمًا عن إرادة الشعب.
كباحث سياسي وناشط سياسي راغب في لعب دور على المسرح السياسي الوطني من خلال فريق عمل يحمل إختصاصات عدّة، أستعرض في هذه المقالة الوسائل التي تستعملها سلطة الأمر الواقع في سبيل تحقيق أهدافها عملياً تختزل السلطة القائمة مختلف سلطات الدولة وتُسخِّرُها لخدمتها وتتدخّل في الشؤون الإنتخابية والحريّ القول أنها اعتمدتْ قانون إنتخابي يُراعي مصالحها بدل مراعاة شؤون الجمهورية وإداراتها وأمور الشعب اللبناني وهذا الأمر أمَّنَ لها السيطرة التّامة على مجلس النوّاب اللبناني ومن ثمّ لدورتين متتاليتيّن تمكّنتْ هذه السلطة الفاقدة للشرعية الشعبية من تأليف الحكومات في كل عهد من حلفائها المخلصين لها عملاء الخارج وهم فعليًا يُنفِّذون سياساتها الداخلية والخارجية بدقّة متناهية بالرغم من أنّ هذه السياسات تتعارض ومصلحة الجمهورية وإداراتها ومصلحة الشعب… لم يتوّقف الأمر عند هذا الحد بل تتدخل هذه السلطة في شؤون القضاء وتسخِّر السلطة القضائية لخدمة أهدافها الخبيثة حيث عمدتْ إلى تعيين أنصارها في المراكز القضائية بطرق ربما عشوائية أو إنتقائية إلى درجة جعلت مشيئتها هي الفاعلة في هذا المجال.
ألفتْ نظر القُرّاء الكرام إلى ما يُعرف بـ«علم السياسة بالإنتخابات المُعلّبة»، والإنتخابات التي جرتْ مؤخراً وعلى دورتين متتاليتيّن كانتْ عُرضة لتدخّل سافر من الطبقة الحاكمة لأنها تُنفِّذ طلبات رعاة هذه السلطة الإقليميين الذين يتدخّلون في تمرير قانون الإنتخاب وفي تعيين المُرّشحين على اللوائح بموجب صلاحيات الراعي الإقليمي المطلقة. المُرّشحون الراغبون بالتّرشح يتّصلون بسلطة الأمر الواقع المأجورة للحاكم الإقليمي في كل ما يتعلّق بشؤون الآلية التي يُفترض أن يترّشحوا على أساسها… وبالتالي هؤلاء المُرّشحين يخضعون لما يُمليه عليهم هؤلاء الحكام، لا بل البعض منهم يُحجم عن الترّشَح في حال طلب منهم رئيس اللائحة ذلك… إنّ الأمر يؤكد وفق قواعد علم السياسة أنّ تدخلات الراعي الإقليمي ومندوبه اللبناني تستند إلى ما يتمتّع به هذا الراعي من صلاحيات قانونية غير دستورية وغير شرعية تتيح له تغيير موازين القوى.
واقع الجمهورية المأزوم يسمح لنا بالقول إنّ الواقع السياسي القائم في البلاد وغير الديمقراطي أدّى في المراحل السابقة والحالية إلى تحجُّر الحياة السياسية اللبنانية على طرق وأساليب تحمل الآثار الدكتاتوري ومفاسده ومظالمه… وأصبحت المعادلة الحالية تؤكد أنّه لا يمكن إيجاد منظومة سياسية جديدة بإمكانها خرق هذا الواقع المرير، وهذا الواقع يؤثر سلباً على واقعنا السياسي… إضافةً إلى أمر جوهري ألا وهـوَ غياب الدور التشريعي للنائب والملاحظ أنّ هناك تقلُّصا في دور النائب التشريعي في كل ما يتعلّق بشؤون المواطنين وإدارات الدولة وتطبيق مبدأ المساواة أمام القانون. الواقع السياسي الحالي يؤكد أنّ اللبنانيين هم أمام إقطاع ألعن من الإقطاعية السياسية حيث يقتصر دور النائب على الإستئثار بالخدمات الشخصية، لا بل في منع الإدارة وتعطيلها كي تمُرّ الأمور عبر النائب فقط… ويحضرني في هذه المناسبة ذلك الأمر: أتاني في فترة الإنتخابات السابقة أحد الأنسباء يقول لي «بدّي إنتخب نسيبنا الأستاذ… بتعرف ليّ: لأنو خادمني وموظفني بالكازينو، ومش حابب زعلوا…» خدمك ووظّفك بالكازينو ورهنك مع إنو هيدا حقك إذا كنت صاحب حق إنك تتوظف بأي إدارة بالدولة من دون جميلة حدا ولكن على من تقرأ مزاميرك يا داوود.
واقع الجمهورية المأزوم سببه أنّ السياسيين لم يطبّقوا النصوص الدستورية حيث بقيت مُغيّبة عن التطبيق عمداً… مخالفات كثيرة لا تُحصى وهكذا استمرّ تجاهل وعدم تطبيق القوانين دحضا لما جاء به الدستور من نصوص تحمل بعض المشاكل المشكو منها والتي إزدادت بعد العام 2005، بالإضافة إلى أمر خطير ألا وهــو تقليص صلاحيات القضاء الإداري في الرقابة.
لدينا همّ كبير وهــو إعادة الجمهورية على ما كانتْ عليه قبل الحرب بمعيار وطني بإمتياز متحرّر من كل إرتباط خارجي، وبمعيار ديمقراطي أساسياته الفصل بين السلطات وإنتخابات حُرّة وحريات عامة إلى أُسُس «العلوم السياسية» الذي يرتكن إلى القانون والديمقراطية… سؤال هل بإستطاعتنا الولوج إلى هذا الأمر أم سنبقى أمام واقع الجمهورية المأزوم؟
* كاتب وباحث سياسي