لا تزال الأوساط المراقبة تنتظر المحطات الزمنية والتي من المفترض ان تؤدي إلى تحريك الأزمة السياسية التي تخنق لبنان، بدءاً من عودة الموفد الرئاسي الفرنسي جان ايف لودريان والمصير الغامض للحوار الذي اقترحه، خصوصاً لجهة الشكل الذي سيتخذه، ومروراً بالاجتماع الثلاثي الفاتيكاني ـ الاميركي ـ الفرنسي في روما في الثلث الأخير من ايلول المقبل، والذي يضع الملف اللبناني في طليعة الاهتمامات.
أضف الى ذلك اندفاع الدول الخمس المعنية بالملف اللبناني للسعي الى ترجمة البيان الذي صدر عنها بعد اجتماعها الاخير في الدوحة، وما حُكي عن ضغوط تصاعدية ستشهدها الاسابيع المقبلة. لكن ثمة تعقيدات إقليمية بدأت بالظهور في اطار معركة إعادة «دوزنة» المعادلات الاقليمية على ساحات الشرق الاوسط بين ايران وخصومها، وفي طليعتهم الولايات المتحدة الاميركية والسعودية. وجاء كلام وزير الخارجية الايرانية حول عدم وجود شروط ايرانية مسبقة لتبادل السجناء مع واشنطن، واضعاً المسألة في الاطار الإنساني، انما ليعزز نظرية حصول اتفاق شفهي ضمني بين طهران وواشنطن حول الملف النووي، وانّ السرّية حوله إنما تأتي لحماية الاتفاق الحاصل ولأسباب اميركية وايرانية داخلية.
لكن هذا الاتفاق، والذي يضمن عدم الانزلاق في اتجاه مواجهة عسكرية مباشرة بين البلدين، فهو لا يمنع النزاع على النفوذ في الساحات الخمس، في اطار اعادة رسم الخريطة السياسية في الشرق الاوسط.
والمقصود هنا ساحات اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين. وفي هذا السياق يمكن تفسير التعزيزات العسكرية الاميركية النوعية، والتي حرصت واشنطن على الترويج بأنّها باقية لفترة طويلة، وايضاً الذهاب في خطوة جديدة بتوزيع عناصر من «المارينز» على كل حاملة نفط في المنطقة، وايضاً التصعيد في شمال سوريا وسعي واشنطن لإنشاء هلال سنّي مؤلف من الاكراد والعشائر العربية على جانبي الحدود في سوريا والعراق، للإمساك بالطريق البرية بين ايران والساحل اللبناني، والأهم إيلاء تركيا دوراً جديداً محورياً في المنطقة، وهو ما أنتجته القمّة الاخيرة لدول الحلف الاطلسي.
لكن في المقابل، باشرت ايران حركة شغب ستؤدي فعلياً لتوسيع رقعة التعقيدات الاقليمية. وخلال الاسابيع الماضية سُجّل دخول ايران على خط الحرب المندلعة في السودان من خلال وصول شحنات اسلحة إلى الجيش السوداني، ما يضمن استمرار المعارك مستقبلاً. وكانت السعودية المهتمة جداً بالساحل السوداني كمنطقة يمكن اعتمادها لتصدير النفط كبديل آمن من الممرات المائية الحالية، سعت لإقفال الحرب المندلعة في السودان، مستغلة نقص الإمكانات القتالية خصوصاً لدى الجيش، وهي احتضنت اجتماعات في هذا الصدد وكادت تحقّق الخرق المطلوب، الاّ انّ وصول الاسلحة الى الجيش السوداني أعاد الامور خطوات الى الوراء.
وفي سوريا، أظهرت الغارة الاسرائيلية الاخيرة استهدافاً لمهندس خبير في صناعة الاسلحة، انّ ايران باشرت إنشاء مصانع للمسيّرات والصواريخ على الاراضي السورية كبديل لإغلاق المنافذ البرية التي تؤمّن تزويد دمشق و«حزب الله» بالسلاح النوعي.
وفي هذا الوقت عادت مجموعات «داعش» لتطلّ برأسها في محيط البادية السورية شمال شرق سوريا بين الرقة ودير الزور، حيث نفّذت هجوماً هو الاكبر لها منذ العام 2017 حين سيطر الجيش السوري الى جانب المجموعات الموالية لإيران على المنطقة.
كل هذه التعقيدات قد تنعكس على لبنان سلباً لجهة إمكانية تأمين مناخ خارجي ملائم لإمرار تسويته الرئاسية المنتظرة في موعد زمني قريب. والواضح انّ «حزب الله» يعمل وفق هذه الحسابات لجهة ملء الوقت الضائع، في اعتبار انّه سيطول. ويعتقد البعض انّ «حزب الله» يتمسّك بعدم الذهاب الى تسهيل التسوية الرئاسية الّا بعد مدخلين إلزاميين: الاول وله علاقة بانتهاء لعبة «الكباش» الإقليمية او بتعبير أصح «عضّ الأصابع» الحاصل مع ايران على مستوى الساحات الخمس في المنطقة، وعلى قاعدة ترابط الساحات. والثاني اي الخطوة اللاحقة، وهي إنجاز تسوية مستقلة بينه وبين الاميركيين حيال عناوين المرحلة المقبلة، والتي من المفترض ان تشهد استقراراً مستقبلياً ولو مؤقتاً على غرار ما حصل مع التجربة الناجحة في ملف الترسيم البحري. ولأنّ هذين الشرطين بحاجة لوقت ليس بقصير، فإنّ «حزب الله» يعمل على إمراره من خلال إعادة تحسين موقعه داخل البيئات اللبنانية الأخرى، بعدما اظهرت له دراسة كان تمّ اجراؤها خلال الاشهر الاخيرة وجود تباعد كبير بينه وبين الغالبية في البيئات المذهبية والطائفية الاخرى. وربما هذا ما عزز الرأي الداعي الى إعادة وصل ما انقطع مع رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل، الذي وجد بدوره مصلحة في التقارب لقطع الطريق على حماسة القرار الخارجي لوصول قائد الجيش العماد جوزف عون الى رئاسة الجمهورية، وفي الوقت نفسه عدم فتح الطريق امام رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية.
واستطراداً، فإنّ ظروف الحوار الدائر قد لا تؤدي الى النتيجة الجاري تسويقها في الاعلام. والأهم انّ الطرفين يدركان ذلك ضمناً ولو انّهما بحاجة لإبقائه. «حزب الله» للتخفيف من حدّة الاصطفاف الداخلي في وجهه، وباسيل لإعادة تلميع حضوره وعلى أساس انّه مهمّ ومحوري وانّ «حزب الله» على رغم من كل ما قيل والسجال الذي حصل، لا يستطيع الاستغناء عنه وعن دوره. ومع شيء من التدقيق فإنّ شريك «حزب الله» الأساسي اي رئيس مجلس النواب نبيه بري والذي يأخذ على «حزب الله» اسلوب «الدلع» الذي يمارسه مع باسيل، فإنّه أبلغ الى زواره بأنّه غير موافق بتاتاً على الطرح الذي تقدّم به باسيل، وبأنّ هذا غير وارد عنده لا بل انّه من سابع المستحيلات.
وهذا ما يؤكّد أنّ الاوراق الجاري كتابتها لن تصل الى النتيجة المطلوبة والحاسمة. لكن السؤال المطروح دائماً هو، ما اذا كان الواقع الداخلي يحتمل هدر مزيد من الوقت. ولا حاجة للتذكير بأنّ مؤسسات الدولة المنهارة متوقفة عن العمل باستثناء الجيش اللبناني والمؤسسات التي تستظل به. ولم تعد الدوائر الرسمية موجودة ومن يقوم مكانها هو كاتب العدل.
وفي دراسة مبنية على استطلاع رأي أجرته مؤسسة «الباروميتر العربي» في بداية السنة الاخيرة من ولاية الرئيس السابق ميشال عون، اي في مطلع العام 2022، بدت الصورة كارثية في لبنان، فاحتل آخر الترتيب في القائمة بين عشر دول شملتها الدراسة وهي: تونس، الكويت، فلسطين، المغرب، موريتانيا، الاردن، ليبيا، العراق، السودان ولبنان. ففي تقييم الثقة برئيس الدولة جاءت النسبة 8% فقط وبرئيس الحكومة 9% وبالنظام القضائي 16%، وحول درجة عمل الحكومة في محاربة الفساد بقي لبنان في أدنى اللائحة مع 11% فقط، في حين احتل لبنان الموقع الاول حول الفساد في مؤسسات الدولة لتبلغ النسبة 96%.
واعتبر اللبنانيون انّ التحدّي الاول الذي يواجه البلد اقتصادي بنسبة 48% ثم الفساد المالي والاداري 23%. اما عدم الاستقرار الأمني فلم يشكّل قلقاً كبيراً لدى اللبنانيين مع نسبة 9% فقط، وهو ما يعكس ثقة بالمؤسسات العسكرية والأمنية.
والأهم فقدان الثقة بالمستقبل الاقتصادي مع اعتبار 43% بأنّه سيكون أسوأ بكثير و18% أسوأ بقليل، و20% بأنّه سيبقى كما هو. فقط 17% اعتبروا انّه سيكون افضل.
كما انّ 60% من الشريحة ما بين 18 و 29 سنة يفكرون بالهجرة، وهو ما يعني النزف الكبير في طاقته الشبابية.
وهذا ما يتوافق مع اعتبار 16% فقط بأنّهم راضون عن النظام التعليمي، و12% راضون عن نظام الرعاية الصحية. في وقت حازت السلطة يومها على 5% فقط من تأييد اللبنانيين.
قد لا يكون تغيّر الكثير في العام 2023، لا بل على العكس، وهو ما يستوجب على القوى السياسية الإقرار بأنّ تحقيق مصالحها لا يجب ان يكون على حساب وجع مجتمعاتها، كل مجتمعاتها.