عام 1956 جاء المؤرخ البريطاني الكبير أرنولد توينبي الى بيروت وألقى محاضرة في «الندوة اللبنانية». كان فحوى المحاضرة نظرة الى لبنان من ضمن رؤيته الشاملة لقراءة التاريخ وصنعه، وهي نظرية «التحدي والإستجابة». فالتاريخ وأحداثه مجموعة «تحديات» امام الشعوب. وما يحدد تطور الأحداث والإتجاه الذي تخدمه هو نوع «الإستجابة» للتحدي. ولبنان لم يكن عاجزاً عن الإستجابة للتحدي في ذلك الوقت.
في القرون القديمة كانت المدن الفينيقية في جبيل وصيدا وصور سبّاقة في الإستجابة للتحدي بإقامة نماذج حكم منظمة وإنتاج السلع النادرة وعبور البحر المتوسط الى العالم. في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين تمكن اللبنانيون في جبل لبنان ثم في لبنان الكبير من مواجهة التحديات الداخلية وتحديات السلطنة العثمانية وتحديات الحداثة الأوروبية ولعبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى، فكان لهم وطن. لا مجرد بلد بل بلد إستجاب لتحدي العيش المشترك السياسي، لا البيولوجي فقط، وسماه البابا يوحنا بولس الثاني «البلد – الرسالة». في الربع الأخير من القرن العشرين بدأ العجز عن مواجهة التحدي الى حد انهيار الدولة، وإن بقي النظام، واندلاع حرب تعددت وتداخلت وجوهها المحلية والعربية والإقليمية والدولية. وفي القرن الحادي والعشرين صار لبنان عاجزاً كلياً تقريباً عن مواجهة أكبر التحديات الوجودية: تغيير هويته وطابعه الحداثي والإندفاع في الطابع الطائفي والمذهبي للنظام على الطريق الى لبنان آخر.
ولا حدود للتحديات اليوم. أزمة سياسية ومالية واقتصادية. السطو على ودائع الناس في المصارف تحت حماية المافيا السياسية والمالية والميليشيوية الحاكمة والمتحكمة. وشغور رئاسي متكرر يدوم سنوات. برلمان معطل. عجز عن منع الشغور في قيادة الجيش، كما عن مجرد التأثير في قرار «المقاومة الإسلامية» التي صارت جيشاً كاملاً يلعب أدواراً إقليمية ضمن مشروع إقليمي إيراني. ثم جاء التحدي الكبير في حرب غزة، حيث فتح «حزب الله» جبهة الجنوب وأعاد إليها الفصائل الفلسطينية الوارثة أدوار الفصائل القديمة التي قادت الى حرب لبنان. لكن الإستجابة لكل هذه التحديات تكاد تكون صفراً بالمعنى العملي.
ذلك أن اللبنانيين ينزحون من قراهم في الجنوب، وسط امتلاء لبنان بمليوني نازح سوري يزداد عددهم يومياً، الى جانب اللاجئين الفلسطينيين. والحرب، حتى في إطارها المحسوب، تؤثر على كل مناحي الحياة في البلد. ولا شيء اسمه إستجابة. لا حركة لإنتخاب رئيس. لا قدرة حتى على إدارة الأزمات والكوارث. لا قرار إلا لقيادة «حزب الله» وداعمها الإيراني بالنسبة الى مدى الإنخراط في الحرب مع إسرائيل لنصرة غزة. لا أفق لعودة النازحين السوريين الى بلادهم، لأن دمشق تشرط إعادة الإعمار قبل ذلك، وتهرب من التسوية. والغرب يرفض إعادة الإعمار والعودة من دون تسوية سياسية على أساس القرار 2254. حتى المنظمات الدولية التي تعنى بإغاثة النازحين ترفض إعطاء «الداتا» للمسؤولين اللبنانيين والعاجزين عن فعل شيء غير البكاء. وما يتحرك هو فعل المقاومة عبر الحدود، والأصوات المرتفعة للمعارضين وبعض التحركات الإستعراضية لسياسيين يريدون تحقيق أهداف صغيرة.
في محادثات بين الدكتور هنري كيسنجر وشوان لاي قال الوزير الأميركي: «لدينا ستة مواضيع للبحث». رد رئيس الوزراء الصيني: «ليس لدينا سوى موضوع واحد هو تايوان». مرتا اللبنانية مشغولة بأمور كثيرة عاجزة عن تحقيقها، ولا قدرة لها على المطلوب الواحد.