IMLebanon

في أسباب الأزمة واستعصائها

 

يمر لبنان، الآن، بأزمة جديدة! وما أكثر الأزمات التي تعصف به منذ نشوئه قبل حوالى قرن، أو منذ استقلاله السياسي قبل حوالى ثمانية عقود. الأزمات المشار إليها هنا، هي أكبر وأخطر من مشكلات من نوع عدم انتخاب رئيس للبلاد، أو العجز عن تشكيل حكومة جديدة، أو تعذر ملء الشغور في وظائف أساسية، إدارية ومالية وأمنية وعسكرية…

على كل حال، فإن ما تقدم ذكره يدخل في خانة النتائج لا الأسباب. إننا هنا نتحدث عن أزمات كبيرة وشاملة، غالباً ما رافقها توتر سياسي وأمني واجتماعي. وهي قد تمتد لسنوات طويلة دون أن تجد لها حلولاً أو تسويات حاسمة. أمّا الأسباب، فتتمثّل في افتقار النظام السياسي اللبناني إلى الحد الأدنى من الشروط المرجعية الضرورية، في حقلي التشريع والمؤسسات، للتعامل مع الأزمات، بما يؤدي إلى حلها أو احتوائها ومنع تفاقمها: وفقاً لآليات راسخة تفرز، شرعياً وديموقراطياً، الأكثريات المقررة والمعترف بها. ما يحصل هو أن الأزمات تعطّل المؤسسات في وظيفتيها االتشريعية والتنفيذية: ليقع الفراغ والخواء بشكل كامل، ومعهما الشلل والفشل والعجز والخسائر والمخاطر من كل نوع. هذا ما نختبر إحدى حالاته المتداخلة والمتمادية منذ اندلاع الأزمة الاقتصادية الطاحنة قبل خمس سنوات، إلى المحطة الجديدة من العدوان الصهيوني المستمر على الشعبين اللبناني والفلسطيني، منذ أكثر من سنة، إلى اليوم.

تمسك الطبقة البورجوازية الكبرى المتشكلة وفقاً لفرز طبقي في المضمون وطائفي في الشكل (أداة لبلورة وإقامة سلطتها وإدامة سيطرتها) بزمام النظام السياسي عبر «كوتا» تقاسم ما زالت قائمة منذ الاستقلال إلى اليوم. وهي صيغة تبنتها ورعتها دول المتروبول في مستعمراتها لإضعاف وتوهين تلك المستعمرات بالانقسامات والعصبيات المتوارثة، ما يمكن من إدامة السيطرة عليها في نطاق خطة تقسيم عمل دولية تبقيها تابعة ومرتهنة ومنهوبة لمصلحة قوى المركز المسيطر على مفاصل حركة الإنتاج والتجارة والمواد الأولية والأسواق وخطوط النقل… إلى التشريعات والعلاقات والمنظومات السياسية والدولية والعسكرية الخادمة لكل ذلك. وهي تتمسك بهذه «الصيغة»، بإصرار وعناد، رغم النزاعات على السلطة وتوازناتها، وعلى الحصص وأحجامها، ورغم تباين الولاءات والمرجعيات الخارجية وصراعاتها على النفوذ في لبنان والإقليم، وحتى في العالم. وهي تتمسك بها، خصوصاً، رغم الأزمات الكبيرة والمتكررة التي اتخذت أحياناً صيغة حروب أهلية مدمرة ومهددة لوحدة البلد ولسيادته وحتى لوجوده.

اقترن التمسك بالصيغة المذكورة، من قبل كل أطرافها القدماء والجدد، بالرفض المطلق والدائم لكل محاولات تطويرها أو تعديلها، أو حتى إجراء بعض الإصلاحات البسيطة في جنباتها. وفي خدمة ذلك تمّت صياغة إيديولوجيا زائفة تقوم على أن تلك «الصيغة» هي أساس «معجزة النجاح» اللبناني، وأنها حقيقة تأسيسية في البنية الاجتماعية اللبنانية، وأن تبديلها أو تعديلها يهدّد الكيان اللبناني بالزوال.

ليس هذا فقط، بل أنه جرى دفع الخلل إلى حدوده القصوى. فالنظام الذي رعى المنتدب الفرنسي إرساءه على مرتكز الغلبة، أو التمييز و«الامتيازات» في الإمساك بمفاصل القرار الوطني الرئيسية، انتقل، تحت وطأة تبدل الظروف والتوازنات، إلى «المناصفة» المعطّلة: بتنامي الدويلات على حساب الدولة، وبتمليك المحاصصين حق «النقض» الموزع على الكيانات الطائفية وفقاً لـ«ميثاق وطني» غير مكتوب، ولكنه فوق الدستور نفسه.

مناسبة هذا الكلام الآن وقوع الذكرى السنوية لانتفاضة 17 تشرين الأول، والأزمة الطاحنة التي ولّدت تلك الانتفاضة وكيف جرى إجهاضها من قبل سلطة المحاصصة وأخطاء محركي الانتفاضة نفسها. هذا، خصوصاً، إلى دور واشنطن التي حاولت توظيف كل إمكاناتها لإدراج الانتفاضة في خطط استهدافها للمقاومة ضد العدو الصهيوني. والمناسبة، الأهم والأخطر حالياً، هي ما يدور من سجال بشأن الموقف من الصراع الدائر في المنطقة منذ أكثر من سنة. وهو صراع يكاد لبنان يصبح ساحته الأساسية، أمّا نتائجه، فتطاول، ولو بنسب متباينة، كل اللبنانيين من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، فضلاً عن الوضع الإقليمي برمته بسبب الطابع الشامل للصراع بما هو، مرة جديدة، صراع في كل المنطقة وعليها. وهو صراع يحفّزه، بالدرجة الأولى، مشروع السيطرة الخارجية عليها والذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية لمصلحة الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى.

الحرب عمّقت الأزمة الداخلية. تطبيق «الطائف»، بشكل مشوه، من قبل أوصياء الخارج وفئويي الداخل، حوَّل تلك التسوية إلى مصدر جديد للخلل والفشل والإفلاس وتعزيز الطائفية وإلغاء القدرة على إدارة السلطة إلا بمعجزة بتوافق الداخل والخارج، ما أفسح لمزيد من الاختلال والأزمات في الحقول كافة.

كان هذا هو الوضع بالنسبة إلى معركة الإصلاح. ماذا عن معركة التحرر الباهرة، والمثيرة للجدل، في مواجهة العدوّين الاستعماري والصهيوني؟ هذا ما سنتناوله في المقالة القادمة.