كان المأمول أن تغريه كتب التاريخ وأن ينصرف الرئيس ميشال عون إلى ممارسات تختصر سيرته على صفحاتها. في خريف التجربة السياسية المديدة كان الرهان على أن يغلب الهدوء والحكمة لتيسير إنجازات تجعل من عهده العهد الاستثنائي الذي يتصوره. فكتب التاريخ مُغْوية لمن مثله، وهو يظن أنه مُغوٍ لها. لكن التاريخ متطلِّب، ونزق، ومقتر في المواعيد التي يمنحها لمن يراودونه عن لائحته.
ظننت وكتبت، هنا، أن الرئيس عون يريد عهداً ناجحاً، وأن هذا يتطلب حضوراً أكبر للدولة ولمؤسساتها ولانتظام العمل بالدستور، ولعلاقات لبنانية سليمة مع العرب والعالم.
وراهن مَن راهن على التسوية الرئاسية أن المغامرة تستحق، لأنها تصالح الكثير من المسيحيين مع اتفاق الطائف، وتصالح المسلمين مع فكرة الضمانة المسيحية للنظام والكيان، عبر «الرئيس القوي»، ذي الصفة التمثيلية في بيئته، وأن المناخ يصفو بعد ذاك من سموم سياسات الهويات الفرعية.
حين التقيت الجنرال عون قبل نحو سنتين، من انتخابه، كان ذلك في ذروة الاشتباك السياسي في لبنان، وفي غمرة البحث عن حلول لمآزق الفراغات المتتالية في المؤسسات الدستورية. التقيته بعد سلسلة حوارات طويلة مع مقربَين منه، هما الإعلامي جان عزيز والسياسي المخضرم كريم بقرادوني، وكان الوزير الشهيد محمد شطح على بيّنة من اللقاءات ومضامينها، وكانت تراوده فكرة البحث في وثيقة تفاهم مع الجنرال ميشال عون. البقية للتاريخ.
سمعت من الجنرال أنه يريد «عهداً ناجحاً» وأنه من الفطنة بمكان ليدرك أنْ «لا عهد يمكنه أن يقلع من دون سعد الحريري»، موضحاً أن «من يراهنون على انقلابَي على (حزب الله) واهمون، فأنا أريد أن أجمع البلد لا أن أقفز من موجة إلى أخرى».
ربما كان من السذاجة الظن أن «العونية السياسية» قابلة للتحول إلى شيء لا يشبهها، وأن ملامح هذه الظاهرة السياسية في نشأتها ستختلف عن ملامحها ما بعد الرئاسة. وربما هي الحظوظ السيئة ومكر التاريخ، ومواقيته. فانتخاب عون رئيساً في 31 أكتوبر (تشرين الأول) 2016 سبق بثمانية أيام وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، مع ما يعنيه ذلك من تحول في البيئة الاستراتيجية التي ظُن أنها بيئة التسوية، وبداية مسار الاشتباك المتصاعد مع إيران، وما لذلك من تداعيات على لبنان وتوازن القوى السياسية فيه ودرجات توترها وتأثر قابلياتها للتسوية أو التصعيد.
ثم ما لبثت أن سقطت حلب بعد أسابيع في ديسمبر (كانون الأول) 2016، وبدا أن بشار الأسد وموسكو و«حزب الله»، قد نجحوا في إنهاء الثورة السورية في قلبها النابض، وأن لذلك أثماناً يجوز تحصيلها في بيروت.
وربما عكست خيبة الأمل من التحول العوني الموعود، ما تسميه لورين بيرلانت، في نقد النيوليبرالية الاقتصادية، «وحشية التفاؤل»، أو الخيال الجامح في أن الإصلاح والاستدراك الذاتي ممكنان، على الضد من آلاف الأدلة التي تثبت عكس ذلك.
فسرعان ما أثبتت الباسيلية (نسبةً إلى سلوك الوزير جبران باسيل) أنها امتداد للعونية، بل إن الوزير جبران باسيل يتصرف مع عمه رئيس الجمهورية على أنه شريك في صناعة المجد. ولئن كان عون صاحب «المجد» العسكري، فباسيل هو صانع «المجد» السياسي، منذ أن تصدر وتفرد بالموجة القائلة ضمن التيار الوطني الحر بالتفاهم مع «حزب الله» بعد العودة من المنفى الباريسي عام 2005، وليس بالتفاهم مع مجموعة «14 آذار»، مطيحاً بكل مَن كان ينظر عكس ذلك.
بهذا المعنى، أنتجت التسوية رئيسين؛ واحداً هو ميشال عون في خريف تجربته، بوسعه الركون إلى السكن الهانئ في القصر الرئاسي، وواحداً هو جبران باسيل في منتصف الطريق إلى القصر، يحترف استنساخ الصخب والضجيج والمعارك والأعداء والانتصارات وكل العُدة التي أوصلت عمه إلى الرئاسة.
كان نجاح التسوية رهناً بمساهمتين بسيطتين: حماية الرئيس ميشال عون لها بصفته الحَكَم، وإدارة الرئيس سعد الحريري لها بصفته ولي الدم (اللبناني والسوري) المتخفف رغم ذلك من أثقال الانقسام السياسي بين اللبنانيين، وواضع السياسة على الرف، لأنها لا تطعم خبزاً، لحساب الاقتصاد والخبز الموعود.
سنكتشف مجدداً الأثر القاتل لـ«وحشية التفاؤل». استحوذ جبران باسيل في التسوية على ما لم يسبقه إليه مسيحي آخر منذ اتفاق الطائف، وفي كل مرة كانت النتيجة إذكاء شهيته للمزيد بلا أي مؤشرات تدل على إشباع وشيك. أخذ الكثير مما يحق له ومما لا يحق، منتشراً على خريطة الاستحواذ من ملف التعيينات في الإدارة اللبنانية، مروراً بوضع جدول أعمال مجلس الوزراء، وصولاً إلى تعطيل الجلسة الأخيرة للحكومة بقوة الثلث المعطل.
الشهية الباسيلية تحالف معها رئيس الجمهورية وصولاً إلى الإخلال الجدي بحماية التسوية، وتحويلها منصةً استقواء على الجميع وأولهم رئيس الحكومة، كما اعترف إعلام الأخير أكثر من مرة، و«وحشية التفاؤل» جرّت رئيس الحكومة إلى الإخلال الجدي بإدارة التسوية، كما اعترف بذلك أركان طائفته من رؤساء حكومة ووزراء سابقين ومفتٍ راهن.
هل للتسوية فرصة؟
تعتمد الإجابة على تعريف الأزمة الراهنة، وهي بالتأكيد لا تتعلق فقط بالأسلوب الحاد لجبران باسيل وهو يرسم حدود الحالة الباسيلية على مساحة القرار الوطني والسياسي في لبنان.
المسألة سياسية أولاً وأخيراً وعلى صلة بكل ما يجري في الإقليم ولا تواجَه إلا بالسياسة، ومن خلال إدراك وفهم العوائق الحقيقية التي يواجهها لبنان.