الطعن الجزئي بالموازنة .. احقاق حق للعسكريين
قبل ثلاثة عشر عامًا، سطّر اللبنانيون أعظم انتصاراتهم أمام العدوّ الإسرائيلي وماكينته العسكرية ودخلوا التاريخ على أنّهم البلد الوحيد الذي ردّع العدوان الإسرائيلي في صيف العام 2006. إلا أن هذا النصر الذي حقّقه اللبنانيون قابلته هزيمة قاسية أمام ماكينة الفساد، ماكينة أرجعت لبنان سنين إلى الوراء وأفقدته ما لا يقلّ عن مئات المليارات من الدولارات الأميركية على شكل خسائر مباشرة وغير مباشرة وذلك على مرّ الفترة التي تفصلنا عن عدوان تمّوز 2006. هذا الأخير أسّس لنهج هدّام في الإدارة المالية للدولة اللبنانية من خلال الإنفاق على أساس القاعدة الاثني عشرية واعتمادات من خارج الموازنة. فالدمار الذي ارتكبته الماكينة العسكرية الإسرائيلية خلّف أضرارا مالية هائلة فرضت آنذاك اعتمادات من خارج الموازنة لمواجهة الاستحقاقات. إلا أن هذا النهج إستمرّ في الأعوام التي تلت نهاية العدوان حتى أصبح الدين العام في مستويات لا يُمكن للبنان تحمّلها. وتُشير البيانات التاريخية الى أن الدين العام ارتفع من 40 مليار دولار أميركي في نهاية العام 2006 إلى 86 مليار دولار أميركي حاليًا أي بوتيرة 3.5 مليار دولار سنويًا! والسؤال المطروح: على ماذا صُرفت هذه الأموال؟
تفشّي الفساد الذي واكب هذه الفترة هو التبرير الأساسي لإنفاق هذه الأموال. فكتلة الأجور في القطاع العام ارتفعت من 2 مليار دولار أميركي في أواخر العام 2006 إلى أكثر من 6 مليار دولار أميركي في العام 2018 لتُسجّل إنفاقاً تراكمياً بقيمة تقارب الـ 50 مليار دولار أميركي. أمّا خدمة الدين العام فقد ارتفعت على الفترة نفسها من 4 مليار د.أ إلى 6 مليار د.أ مع قيمة تراكمية فاقت الـ 51 مليار د.أ. وفيما يخصّ دعم مؤسسة كهرباء لبنان، فقد ارتفعت قيمته من أقلّ من مليار دولار سنويا إلى ملياري د.أ. تقريبا مع دعم تراكمي على الفترة نفسها بقيمة 18.5 مليار دولار أميركي، في حين بلغ الإنفاق التشغيلي التراكمي على الفترة نفسها ما يُقارب الـ 18 مليار د.أ. وفي المقابل لم يتخطّ الانفاق الاستثماري التراكمي من العام 2007 إلى أواخر العام 2018 إلـ 6.5 مليار د.أ.!
وإذا ما نظرنا إلى العجز التراكمي على الفترة نفسها، نرى أنه بلغ 65.5 مليار دولار أميركي مقابل خدمات عامّة، أقلّ ما يُقال عنها انها لا ترتقي إلى مستوى الخدمات العامة في الدول المُتطوّرة مع خدمة كهرباء رديئة، نفايات في الطرقات والبحر، طرقات لا تتسع للسيارات، نقل عام معدوم، ضمان شيخوخة غير متوافر للقطاع العام، خدمات صحّية تحت رحمة أصحاب النفوذ..
في الجهة المُقابلة، نرى الدولة العبرية في تطوّر مُستمر اقتصاديا، اجتماعيا وبيئيا، فقد سجّل الناتج المحلّي الإسرائيلي 154 مليار دولار أميركي في العام 2006 (لبنان 22 مليار د.أ.) مقارنة بـ 390 مليار د.أ. مُتوقع تسجيله نهاية هذا العام (لبنان 54 مليار د.أ.). ومن ناحية التصدير، تُصدّر الدولة العبرية بالشهر الواحد ما يوازي 4.5 مليار دولار أميركي (أي ما يُقارب الـ 60 مليار د.أ. سنويا) مقارنة بتصدير سنوي في لبنان لا يتخطّى الـ 3 مليار د.أ.! وماذا نقول عن نسبة البطالة في إسرائيل التي لا تتجاوز 3.1% مقارنة بنسبة تفوق الـ 35% في لبنان؟ الدين العام للدولة العبرية لم يتخطّ الـ 60% من الناتج المحلّي الإجمالي وهو ما تفرضه المعايير الدولية في حين يبلغ الدين العام في لبنان 154%. والأهمّ أن النفايات لا تغزو الطرقات الإسرائيلية ولا يتمّ طمرها في البحر مقابل المدن الإسرائيلية.
نتفاخر أننا هزمنا العدو الإسرائيلي وهذا حق، لكن للأسف تمّت هزيمة لبنان وشعبه من قبل فساد أصحاب النفوذ والنتيجة، أن شبابنا يبحث عن فرصة للهجرة في حين أن حكومة العدوّ تسعى إلى جذب اليهود من كل أنحاء العالم وتُشجّعهم على الهجرة إلى إسرائيل. رأينا في هذا البلد مسؤولين داخل السجون في حين أننا في لبنان لم نستطع النيل من فاسد واحد في لبنان ولا حتّى بواب صغير لتصحّ مقولة الفنان شوشو «أخ يا بلدنا»!
} الطعن الجزئي بالموازنة.. إحقاق حق للعسكريين }
من جهة اخرى، تقدّم المحاربون القدامى بطعن جزئي في أربع مواد من قانون موازنة العام 2019 الذي يحمل الرقم 144/2019 بعدما وقّع عليه أحد عشر نائبًا. ويشمل الطعن الجزئي المواد: 23 (تعديل المادة 58 من قانون ضريبة الدخل عبر فرض ضريبة تصاعدية على معاشات التقاعد)، 47 (تعديل المادة 47 من قانون ضريبة الدخل عبر تعديل الفقرة الرابعة منها التي تعفي جميع معاشات التقاعد من ضريبة الدخل، واستبدالها بفقرة تعفي فيها معاشات تقاعد ورثة شهداء القوى العسكرية والأمنية والجرحى فقط)، 48 (تعديل المادة 56 من قانون ضريبة الدخل عبر إضافة تنزيل مبلغ 10 مليون ليرة من أساس الراتب في احتساب ضريبة الدخل للمتقاعدين)، و82 (فرض اقتطاع شهري على رواتب ومعاشات تقاعد العسكريين لزوم الطبابة والاستشفاء والمساعدات الاجتماعية).
هناك بُعدان يُمكن من خلالهما مقاربة هذا الطعن الجزئي الذي يستهدف مواد من الموازنة وليس كل الموازنة: الأوّل بعد دستوري والكلمة الفصل هنا للمجلس الدستوري الذي سينظر في المطالعة التي تمّ إعدادها من قبل المعنيين وبالتالي لن ندخل في تفاصيله؛ والبعد الثاني مالي وينصّ على معرفة ما إذا كان سيُشكّل قبول هذا الطعن عبئا إضافيا على خزينة الدولة، وهذا ما سنُعالجه في هذا المقال.
في الواقع المواد الأربع يُمكن جمعها بفئتين: المواد 23، 47، و48 تتعلّق بضريبة الدخل، والمادة 82 تتعلق برسم طبابة واستشفاء ومساعدات إجتماعية. وبالعودة إلى جداول الموازنة وبالتحديد إلى جداول الجزء الأول الباب العاشر والباب ستة وعشرين، وإذا ما قمنا باحتساب أجور العسكريين في الخدمة والمُتقاعدين منهم، نرى أن رسوم الطبابة والاستشفاء والمساعدات الاجتماعية أعطت للدولة مدخولاً يقارب الـ 61 مليار ليرة لبنانية أو ما يوازي 40.5 مليون دولار أميركي، وأن ضريبة الدخل المفروضة على معاشات المتقاعدين العسكريين تؤمّن 85 مليار ليرة لبنانية أو ما يوازي 65.5 مليون دولار أميركي، أي ما مجموعه 146 مليار ليرة لبنانية أو 97 مليون دولار أميركي.
وإذا ما قمنا باحتساب نسبة العجز التي ستنتج من قبول الطعن في المواد الأربع من القانون 144/2019، نجد أن النسبة ستكون 7.78% من الناتج المحلّي الإجمالي بدل 7.59%، أي بمعنى آخر الـ 97 مليون دولار أميركي زادت نسبة العجز بـ 0.18% !
في المقابل، تبلغ مساحة الأملاك البحرية والنهرية وسكك الحديد التي يستولي عليها المواطنون (سواء كانوا أصحاب نفوذ أو لا) 30 مليون متر مربّع موزّعة كالآتي: 5 مليون متر مربّع الأملاك البحرية، 25 مليون متر مربّع الأملاك النهرية وما يقارب الـ 500 ألف متر مربّع اراضٍ تابعة لسكك الحديد. وهذه المساحة أي الـ 30 مليون متر مربّع، لا تدرّ على الدولة إلا 150 مليار ليرة لبنانية (أو ما يوازي 99.5 مليون دولار أميركي)، أي كل متر مربّع تأخذ عليه الدولة بدل إشغال بقيمة 30 سنتيم من الدولار! وبفرضية أن الدولة وضعت بدل إشغال سنوي بقيمة 100 دولار أميركي لكل متر، فإن مداخيلها سترتفع إلى أكثر من 3 مليار دولار أميركي سنويًا!!
أيضا وإذا ما أخذنا مرفأ بيروت وحده والذي يعبر من خلاله 70% من تجارة لبنان مع الخارج، نرى أن خزينة الدولة تخسر ما لا يقلّ عن 1.5 مليار دولار أميركي سنويا بين نقص في مداخيل المرفأ والتهرب من الرسوم الجمركية. وبالتالي فإن زيادة الرقابة على المرفأ، كفيلة بإدخال ما لا يقلّ عن مليار ونصف المليار من الدولارات. بالطبع اللائحة طويلة حيث يُمكن ذكر التهرّب الضريبي الذي يشكل التهرّب من دفع ضريبة الدخل، والضريبة على القيمة المضافة، والتخمين العقاري وغيرها!
وإذا ما قامت الدولة بمكافحة الفساد في كل المرافق العامّة، فإنه بمقدّورها سدّ عجز الخزينة بالكامل وحتى تسجيل فائض. إذًا لماذا تخصيص الجيش بالتخفيضات ولبنان في أشدّ الحاجة إليه؟ سؤال برسم المعنيين.