ولا حكومة تألفت في لبنان منذ الاستقلال (1943) إلا وكان «الإصلاح» عنوان بيانها الوزاري وفي صلبه، وكانت وثيقة الاستقلال عن فرنسا في تلك المرحلة قائمة على مبدأ المساواة في الحقوق بين جميع اللبنانيين على اختلاف معتقداتهم وانتماءاتهم، أي أن اللبنانيين المستقلين سوف يقتبسون نمط حكمهم من الدستور الفرنسي.
لكن، كان على هؤلاء اللبنانيين أن يتنبهوا الى أن «الجمهورية» تعني بالفرنسي غير ما تعنيه بالعربي، بدءاً من «العلمنة» وصولاً إلى الديموقراطية. لذلك كان «الميثاق الوطني» يرقى إلى مستوى «دستور»، وهو يتألف من عبارات فيها الكثير من المعاني، والكثير من الألغاز، ومنها «الوحدة الوطنية» وهي «حمالة أوجه».
ومع ذلك خدم دستور الميثاق الوطني اللبناني ستة وأربعين عاماً ليتوقف نحو سنتين (1986 – 1988) ثم يعود بعنوان «دستور الطائف» بعد مروره في مخاض عسير في المدينة السعودية التي دخلت في التاريخ اللبناني واتخذت مكانتها إلى جانب مدينة «بشامون» التي شهدت ولادة الاستقلال عام 1943.
حالياً بلغ الاستقلال اللبناني عامه الخامس والسبعين، ولا يزال أهل السياسة، والسلطة، والنفوذ، والقرار في لبنان يتحدثون في موضوع «الوفاق الوطني» والمساواة، والدولة، والقانون، والحقوق بين اللبنانيين، ولاتزال الحكومات، وخصوصاً الجديدة، أو المتجددة، تصوغ بياناتها، بلغات المواثيق والقوانين، والدساتير الراقية، وكأنها تبشّر بإعلان دولة جديدة.
كان «مجلس الطائف» اللبناني يضم نخبة من النواب المحامين، والأساتذة، والأطباء، والمهندسين، ومن أهل الفكر، والسياسة، والثقافة، والاقتصاد، و «الزعامة»، والنفوذ الشعبي، والمعنوي، وكان العشرات منهم قد انضموا إلى «مجمع الطائف» وافدين من مدن وعواصم أوروبية، وأميركية، وخليجية، وهؤلاء كانوا يتحسبون لعودتهم إلى بيروت، لأن المقيم في القصر الجمهوري في بعبدا كان الجنرال ميشال عون، بصفة رئيس حكومة ثانية إلى جانب حكومة الرئيس سليم الحص، أي أن لبنان كان منقسماً بين «جمهوريتين»، وكان الجنرال قد أعلن «لا» لاتفاق الطائف، معتبراً أنه لا يحقق السيادة للبنان. والسيادة كما كان يراها الجنرال تُختصر ببرنامج معلن، ومحدد بثلاث مراحل ومواعيد، أولها انسحاب القوات السورية من لبنان، وإقرار مشروع إصلاح سياسي جديد، ثم إجراء انتخاب رئيس للجمهورية.
كل ذلك كان يعني عدم اعتراف الجنرال عون بشرعية اتفاق الطائف الذي على أساسه كان النواب سينتخبون خلفاً للرئيس أمين الجميل المنتهية ولايته. ولقد دفع الجنرال عون ثمن موقفه الصلب على يد النظام العسكري السوري الذي كاد يدمر القصر الجمهوري فوق رأس الجنرال ومعه عائلته.
في تلك المرحلة قيل في الأوساط الديبلوماسية في العالم العربي وفي الخارج أن إخراج الجنرال عون بالقوة من قصر بعبدا حفظ سلامة الجمهورية اللبنانية وأبعد عنها شر التقسيم، لكن الجمهورية كانت قد دفعت ثمناً وطنياً فادحاً تمثل باغتيال الرئيس رينيه معوّض، أول رئيس بعد الطائف، في الاحتفال بعيد الاستقلال، فكان الشهيد الرئاسي الذي انضم إلى ركب الشهداء الذين سبقوه من زمن العهد العثماني وما بعده.
كان اغتيال الرئيس معوض تبليغاً دموياً من النظام السوري لكل من سيتولى السلطة في لبنان ويتجرأ على ممارسة صلاحياته بشعارات الوحدة الوطنية، والقرار الحر، وكان على القادة والمفكرين والإصلاحيين والناذرين حياتهم ومؤهلاتهم وشجاعتهم وإيمانهم للوطن، بدءاً من كمال جنبلاط ومن جاء بعده، أن يتهيأوا ليومهم، ولم يتراجع أحد منهم عن دوره، ولا تجنّب مخاطرة في مسيرته.
ليست أزمة لبنان من الأزمات المستعصية على حلول مدنية اجتماعية وإصلاحية، فاللبنانيون، مسيحيين ومسلمين، شعب واحد، من أصول واحدة، ومن حضارة واحدة، وإن اختلفت مفردات التعبير عن هذه الحضارة.
مضت ثلاثون سنة على اتفاق الطائف ولم تطبّق أحكامه، إلا بتقاسم المراكز والوظائف العليا بين الطوائف والمذاهب، لكن العدالة لاتزال مغيّبة عن حصص الطوائف الأقل عدداً نسبياً، فما ذنب المميزين والموهوبين من طوائف صغيرة والناشطين في مجالات الإنجاز والإبداع بإمكاناتهم وعطاءاتهم في مختلف الاختصاصات، ليتوقفوا عند حدودهم في الوظيفة الرسمية فيتوجهون نحو عالم العلم والتقدم والمكافأة غير آسفين على ما خلّفوا وراءهم.
يأتي الرئيس اللبناني إلى القصر الجمهوري ويأتي معه «نظامه» وإدارته، ورجاله، وكوادره السياسية. وعلى أفكاره ومشاريعه، وعلى حساباته الشخصية، في الداخل وفي الخارج، تُبنى «سياسة العهد»، وعلى هذه السياسة تنشأ الموالاة، وتنشأ في المقابل المعارضة، بل المعارضات التي تنشط متفرقة في حين تكون جبهة العهد ثابتة، ومتراصة، على قاعدة ما يسمى «إستراتيجية» الرئاسة، أو إستراتيجية العهد.
لكن ما يشفع بلبنان – الدولة، ولبنان – الشعب، والطوائف، والمذاهب، هو أن الجيش، بتكوينه في الأساس، يتوقف دائماً، في كل عهد، عند حدوده المرسومة له، ليس فقط في الدستور والقوانين، بل في التنشئة، وفي المسلك، ولعلّ الجيش اللبناني هو الوحيد بين جيوش العالم المتمدن الذي تتوقف قياداته عند الحدود الشكلية (المتفاهم) عليها، ضمناً، في الترقيات المستحقة إلى المرتبة العليا، استناداً إلى مذهب القائد المستحق. إنها فعلاً، العقيدة العسكرية السمحاء بين الأركان، خصوصاً أن من يبلغ مرتبة قيادة الجيش يصبح على مرمى النظر بين مكتب القيادة في «اليرزة» ومكتب الرئاسة في القصر الجمهوري في بعبدا.
ومع ذلك لا بدّ من ملاحظة، وهي أن لبنان لا يُعتبر من الدول «الديموقراطية» إلا في محيطه الإقليمي، حيث الديموقراطية لا ذكر لها في قواميس أنظمة المنطقة، لكن «ديموقراطية» لبنان تبقى صفة مميزة له، من دون أي كلفة أو محاسبة (ومن يملك حق المحاسبة؟!) فلا هو من الدول ذات النظام العسكري المطبق، ولا هو من الدول الأخرى المحافظة. ومن هنا فإن الكلام على «التغيير» هو «كلام كبير» على لبنان. فالمطلوب قليل ومتواضع، وله حدود، وثوابت، أهمها:
-الحفاظ على النظام اللبناني «الخاص»، كما هو، طالما أن الطوائف والمذاهب هي القواعد الثابتة للنظام وللكيان.
-عدم إلغاء الطائفية السياسية، خوفاً على ما للطوائف الصغيرة من حقوق، وحصص متواضعة نسبياً، في وظائف الدولة. فالعدد في كل مذهب هو «الرصيد» أو «الحساب» في «بنك الحقوق والوظائف والمناصب»، أي أن الطوائف الكبرى هي صاحبة الحقوق الحصرية بالوظائف الكبرى في الدولة.
-الحرص على النظام الاقتصادي والمالي الحر، لكن، مع بعض الضوابط «العصرية». وهذه نظرية مراجع تتحسّب لاحتمال مستبعد لإلغاء طائفية الوظيفة الرسمية مع بقاء القطاع السياسي الفاسد المتحكم بمفاصل وظائف الدولة.
-تعيين هيئات مراقبة قضائية، ودستورية ذات صلاحيات عالية لضبط الذمة المالية وحمايتها من الفساد والتزوير.
-إطلاق حرية المبادرات والأنشطة القانونية في التجارة والصناعة والاستثمار في علوم العصر على أوسع نطاق عالمي.
-فتح أسواق لبنان ومداه الجغرافي، براً، وبحراً، للاستثمار العربي، والأجنبي في السياحة والاصطياف والإشتاء.
-التزام الحياد والتعاون مع العالم العربي والدولي.
-تأسيس جيش شعبي مقاوم (كل مواطن خفير) إلى جانب الجيش النظامي، ليتمركز على طول الحدود مع العدو الإسرائيلي في الجنوب، وهذا مشروع طرحه الشهيد كمال جنبلاط في مطلع الخمسينات من القرن الماضي، وقد أعده الطبيب اللبناني المناضل الدكتور بشارة الدهان الذي شارك متطوعاً مع كوكبة من المناضلين العرب في حرب فلسطين ضد العصابات الإسرائيلية التي ربحت الحرب في ذلك الزمن، وقد عاد الدكتور دهان إلى لبنان وأنشأ حركة «كل مواطن خفير»، وكان لها برنامج أسبوعي في إذاعة لبنان الرسمية.
هي خلاصة عناوين مشاريع ومذكرات إصلاحية تداولتها الحكومات اللبنانية في مختلف العهود، منذ بداية عهد الاستقلال، ولاتزال صالحة للتطبيق بانتظار من يتولاها ويفرضها.
* كاتب وصحافي لبناني