Site icon IMLebanon

لبنان يستحق البقاء

إذا كان الحوار بين بعض الأطراف الأساسيين يعكس مستوى التفكير الرائج في الوسائل الإعلامية عن شؤون المنطقة، فإن النتائج لن تكون مرضية. هناك لغة من التأكيدات لا زالت سائدة عن وضع اجتمعت فيه كل تناقضات العالم، ومنطقة نفضت عنها كل التسميات والتوصيفات والانطباعات لتدخل في خليط عجيب من المشكلات والنزاعات. فالإقرار بالواقع وفهمه فهماً ملموساً بدون إسقاطات رغبوية عليه هو شرط للتعامل الفعال والصحيح معه. فلكم سمعنا من التحليلات التي تنتمي لوجهتي الصراع وفيها هزيمة المشروع الأميركي وانتصار المشروع الإيراني، وعن عالم بدأ يتشكل وفق قواعد جديدة تعددية متوازنة، وتبخيس للخسائر في هذه الجهة وتعظيمها في تلك. ولهذه اللافتات نقيضها، إلى أن دخلنا اليوم في واقع يصعب على اللاعبين الكبار الإحاطة به وبتعقيداته. لسنا في أوضاع تسمح لنا بتبسيط الأمور والتعامل معها «بالشلف» والتعميم وأحياناً كثيرة بخفة المكابرين.

ما زلنا في عالم يمارس الغرب فيه هجومه لفرض أوسع هيمنة وتعميمها، ولديه من الإمكانات ما ليس لدى سواه في المدى المنظور. هو يغيّر ويبدّل في وسائله وأساليبه لكنه لم يرفع راية الشراكة والإدارة العادلة بين القوى والمصالح.

وهناك منطقة أصبحت تسمى «الشرق الأوسط» لضعف الدور العربي فيها، تعاني منذ عقود مشكلات في ما بين أطرافها أبعد بكثير مما هو مع الخارج، وتذهب في الحفاظ على منظومتها التقليدية لترسم حدود هويتها ولتحافظ على سلطان حكامها، وتدرك أنها مجرد وكيلة للمصالح الدولية الكبرى التي تمسك بأمنها وبمقدراتها. ضعفت شرعية حكامها كما ضاقت احتمالات شعوبها على قبول هذا النموذج من الحكم في زمن العولمة، كما خرجت منها تيارات سياسية نمت في ظلامية الاستبداد وحملت أحقاداً غليلة عن كل أشكال الفوارق والاختلافات، واستعانت بكل جهة أو قوة تساعدها على الوصول إلى الحكم أو التمكين لها من أشكال السلطة.

فشلت الحداثة في أن تغيّر بنية المجتمعات العربية، كما فشلت الأنظمة في دمجها على أساس التصور الإيديولوجي وليس الاجتماعي الحقيقي. فحين دبّت الفوضى اثر انهيار هيبة السلطة انفرزت المجتمعات على ما هو دوائر أقرب إلى التماسك التقليدي منه إلى أي تصور تغييري مدني وطني. فللعشائر والطوائف والإثنيات والقوميات وجود وحضور فعال، ولمعظمها تاريخ من التنازع والتنابذ يرقى إلى زمن بعيد.

وجاءت المداخلات الخارجية وحجم الدعم المقدم لتحقيق أهداف الخارج والعنف الذي انتشر وتجذر، والفوضى التي عمّت والمخاوف والهواجس الوجودية وغيرها من العناصر لتجعل السنوات الأربع زلزلة متواصلة لكل هياكل هذا البناء العربي. وليس أدل على استمرار هذا التخلّع من الظاهرة التي غيّرت وجه المنطقة فعلاً وعمّقت تعميقاً ملحوظاً الصراع الطائفي التكفيري، وأنشأت معطيات لا تقوى دول المنطقة على تغييرها ولا يريد العالم أن يضحى بها من دون ثمن مقابل من خصومها.

لذلك حين نفكر بلبنان نعرف أن ما كان قبل أربع سنوات ليس كما بعده من تغيير في الاستراتيجيات والأولويات ومن طبيعة القوى التي كانت محكومة بأن تتصرف كما تصرفت تجاه الأزمة السورية، إما بطبيعة ارتباطاتها وإما بطبيعة مكوّناتها الطائفية، وصار علينا أن نطرح أولويات مختلفة لحماية لبنان بالحد الأدنى من الحريق السوري المستمر لزمن غير قليل، استجابة لكل هذه التناقضات المحيطة فيه واللاعبين من خارج. لقد أصبح تصور المنطقة وقد استعادت شخصيتها السابقة ضرباً من الخيال في دولها وكياناتها وأنظمتها. ولم يعد لبنان دولة صغيرة وضعيفة يتكل على دولة شقيقة جارة وقوية. فما هو موجود في لبنان حالياً ما زال يشكل مادة لبناء مشروع وطني لبناني قبل أن تتسع عدوى الإرهاب وفاعليته وتكبر خصوماته ويكثر غير العابئين به، لا حباً به بل نكاية بالآخر. إن منطق الشراكة المنظمة التي كان لبنان سباقاً إلى بناء نظامه عليها ولو انتكس بسوء إدارة القيّمين على الشأن العام هو رصيد يُبنى عليه خارج هذه الأنانيات السياسية.

لبنان اليوم أكثر من أي وقت مضى نموذج وضرورة من حيث هو بلد التنوع والتعدد والتعايش برغم الكثير من الشوائب والثغرات التي جاءته بمعظمها من محيطه، بدءاً بالنموذج الإسرائيلي النقيض وانتهاءً بحركات الإسلام السياسي وإفرازاته التكفيرية الإلغائية. إن الوجه السلبي للسياسة اللبنانية الذي تفاقم في العقود الأخيرة ليس بعيداً عن محاولة استتباع البلد للخارج وتمكين قوى ذات إمكانات هائلة لإفساد نظام العلاقات الاجتماعية. وبرغم هذا المستوى الخطير من سلوكيات الطبقة الحاكمة على هذا الصعيد فما زال الأمل بإنقاذ القيمة التفاضلية للبنان كبلد يتداول السلطة ويكرّس تعدد مواقعها ولديه آليات سياسية سلمية لحل مشكلاتها. هذا هو الذي يرجوه اللبنانيون الآن قبل أن يصبح جزءاً من دائرة العنف التي تلغي قيمته التاريخية وتحكم على مواطنيه بالبحث عن بديل.