IMLebanon

لبنان لا يتحمل رئيساً جديداً

فشلت أمس المحاولة الواحدة والعشرون لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية. الفشل مرشح للتكرار مرات جديدة عدة لأسباب بات الجميع يعرفها. وغالبا ما يجري التحذير من آثار الفراغ الرئاسي على استقرار لبنان وعلى دور مؤسسات الدولة وموقع المسيحيين الذين يحتلون المنصب الأول الوحيد في العالم العربي في وقت تحتاج الأقليات الى ما يطمئنها الى مستقبلها في هذه الأرجاء.

مقاربة ثانية تقول عكس ما سبق: إن انتخاب رئيس جديد للبنان في الظروف الحالية سيقضي على ما تبقى من توازنات ويفتح الباب واسعاً أمام خروج التناقضات من مجلس الوزراء المقيد إلى الشارع.

آية ذلك أن جلسات الانتخاب الفاشلة ليست سوى التعبير عن عجز متعدد المستويات، أولها عجز عن التوافق بين أطراف الانقسام السياسي– الطائفي على رئيس يضمن مصالح الأطراف المذكورة ويؤمن الغطاء المحلي لتحالفاتها وانحيازاتها، وبالتالي وظائفها الإقليمية وما تجلبه هذه الأخيرة على الداخل اللبناني من توترات وتفاقم للانقسامات.

ثانيها أن أي رئيس جديد، سواء كان توافقياً أو «قوياً» (تعني هذه العبارة في القاموس اللبناني تمتع المرشح للرئاسة بتأييد صريح من جماعته الطائفية وحلفائها في الطوائف الأخرى)، لن يتمكن من إخراج البلاد من الاستعصاء الكامل الذي وقعت فيه بسبب ضعف لبنان البنيوي واعتماده الشديد في معاشه واقتصاده على الخارج، سواء عن طريق الاستثمارات أو المساعدات أو تحويلات اللبنانيين العاملين في أنحاء العالم، إضافة إلى انهيار «المرجعية» الإقليمية بسبب الثورات العربية. يضاف إلى ذلك ارتباط لبنان العضوي بالسياسات والصراعات الإقليمية، قبل سياسة «النأي بالنفس» الهزيلة والهزلية، وبعدها.

ثالثها أن الجمود المشكو منه هو الخيار الأفضل للبنان حالياً. ذلك أن أي محاولة لتعديل كبير أو صغير في التوازنات السياسية الداخلية من دون وضوح المعطى الخارجي، وتحديداً ما يجري في سورية والاتفاق النووي الإيراني، سيشكل وصفة جاهزة لتفجير البلاد ودفعها إلى طريق الاقتتال الأهلي المسدود.

رابعها أن فكرة الرئيس التوافقي التي تمثل أولوية إدارة الأزمة الوطنية على محاولة حلها، لن تفضي الى شيء في ظل الاستقطاب الطائفي الشديد والتوتر ذي المصدرين الداخلي (الصراع على الحصص في السلطة والسعي الى تبديلها) والخارجي (الصراع في المنطقة بين المعسكرين المعروفين).

الحواران الجاريان الآن، الأول بين «تيار المستقبل» وبين «حزب الله» والثاني بين «القوات اللبنانية» وبين «التيار الوطني الحر»، ليسا أكثر من علامتين على الرغبة في الحفاظ على الهدوء الأمني بعد الخضات القاسية التي شهدها لبنان في العامين الماضيين، مثل التفجيرات الانتحارية وبروز جماعات التطرف السنّي المسلحة على حساب «المستقبل» من جهة، وبحث عن معنى لاستمرار المسيحيين في تولي الرئاسة في بلاد تقف على شفير الحرب السنية- الشيعية، من جهة ثانية.

على هذه الخلفية، تبدو أي محاولة للعب بالتوازنات الدقيقة من خلال تعيين رئيس جديد يملك برنامجاً سياسياً واضحاً، بغض النظر عن مضمونه أو انحيازاته، مجرد توريط للمسيحيين في صراع لا يفقهون له سبباً.

الحقيقة المُرّة والمفارقة الساخرة تقولان إن مصلحة لبنان، في هذه اللحظة التاريخية، تقتضي إبقاء منصب الرئاسة الأولى شاغراً إلى أن تتضح مسارات الصراعات الكبرى في المنطقة. اللهم إلا إذا هبت رياح تغيير الوضع القائم وزُجّ بلدنا وأهله مرة جديدة في حروب الأشقاء المستفيدين من انقسامات الأهل والطوائف المحلية المسلحة.