بكلفة 8.1 مليارات دولار، وبتمويل خارج إطار الخزينة العامة، وبفترة لا تتجاوز 25 شهراً، أنهت مصر إنشاء محطات توليد كهرباء بقدرة 14400 ميغاوات. أما في لبنان، فقد أقرّ مجلس الوزراء في عام 2010 خطّة محكمة تتضمن خفص العجز الكهربائي والمالي إلى الصفر خلال مدّة أقصاها 5 سنوات. وبعد مرور 8 سنوات، تبين أن لبنان سيدفع 3.5 مليارات دولار على خيار استئجار الطاقة من مولدات عائمة، وأن الثابت الوحيد هو خيار الخصخصة!
في 19 حزيران الماضي، زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، لبنان. رافقها وفد ضم الرئيس التنفيذي لشركة «سيمنز» جو كايزر. على هامش لقائها برئيس الحكومة سعد الحريري، التقى الوفد الألماني المرافق مع وفد لبناني، من ضمنه وزير الطاقة سيزار أبي خليل. ينقل أحد الحاضرين أن كايزر عرض لأبي خليل إنجازات «سيمنز» في إنشاء معامل توليد الطاقة في مصر وليبيا والسودان وأفريقيا. حدّثه عن الكلفة المتدنية التي لا تتجاوز 600 ألف يورو لكل ميغاوات، وسرعة التركيب التي لا تتجاوز 25 شهراً لمعامل عملاقة، وتوفير التمويل للدولة المصرية التي تعاني من صعوبات مالية واقتصادية كبيرة. رئيس «سيمنز» أنهى حديثه مع أبي خليل بإبداء الاستعداد لتقديم عرض مشابه للحكومة اللبنانية. ببرودة لافتة، ردّ أبي خليل. تحدّث من جهة عمّا سمّاها «التعقيدات المحلية». ومن جهة ثانية عن «انعدام معرفة «سيمنز» بالبيئة اللبنانية». ملامح كايزر تبدّلت. لم يتوقع ردّاً بارداً ومنفّراً كهذا. كان رجل الأعمال الألماني فقط يروّج لعرض تجاري. هي مجرّد صفقة محتملة واحتمال الرفض موجود دائماً. لكن في العادة، يكون الرفض بمبرّرات تقنية ومالية وحتى سياسية وليس «بلدية»!
بعد أربعة أسابيع على مغادرة ميركل لبنان، افتتح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي أربع محطات عملاقة لتوليد الكهرباء من صنع «سيمنز» وتركيبها، بشراكة مع شركة السويدي إلكتريك وأوراسكوم للإنشاءات. وبحسب بيان صادر عن «سيمنز» في 24 تموز الماضي، تبلغ قدرة هذه المحطات 14400 ميغاوات، أُنجزت خلال 27.5 شهراً. تعمل هذه المحطات على الفيول أويل الخفيف وعلى الغاز. كلفة المشروع بلغت 7 مليارات يورو (8.16 مليارات دولار). أي إن معدل كلفة الميغاوات الواحد أقل من 570 ألف دولار. وبحسب مصادر مطلعة، وفّرت «سيمنز» وحلفاؤها جزءاً كبيراً من تمويل المشروع للدولة المصرية عبر قروض من البنك الدولي والاتحاد الأوروبي ومجموعة «هيرميس».
تبيّن أيضاً أن ليبيا وقّعت في 2017 عقداً مع «سيمنز» لإنشاء محطتي كهرباء بطاقة 1440 ميغاواط بقيمة 700 مليون يورو (نحو 830 مليون دولار). كذلك، وقّع السودان في كانون الأول 2016، مع الشركة نفسها، اتفاقية لإنشاء محطة كهرباء بطاقة 850 ميغاوات، وبدأ تشغيل المحطّة خلال سنة واحدة من تاريخ التوقيع.
المقارنة وحدها تقدِّم الجواب
تكفي المقارنة بين ما قامت به مصر وليبيا والسودان، وما قام به لبنان، للاستنتاج أن أمراً مريباً ومشبوهاً يحصل. ففي عام 2010 أقرّت الحكومة خطّة محكمة للقضاء على التقنين خلال 5 سنوات. قضت الخطة برفع القدرات الإنتاجية للكهرباء في لبنان من نحو 1600 ميغاوات إلى 4000 ميغاوات في نهاية 2014، وأكثر من 5000 ميغاوات ما بعد 2015 بكلفة إجمالية قدرت يومها بنحو 4.8 مليارات دولار، ما يجنّب لبنان ارتفاع الخسائر الناجمة عن العجز الكهربائي إلى 9.5 مليارات دولار في عام 2015.
الخطّة تضمنت اللجوء إلى استجرار الطاقة من مولدات عائمة على المياه (بواخر الكهرباء)، بكلفة 5.85 سنت لكل كيلوات ساعة وبقدرة تبلغ 270 ميغاوات. الهدف من هذه المولدات أن تكون بديلاً على مدى زمني متوسط يراوح بين 3 سنوات و4 سنوات لتأمين الكهرباء للمشتركين، ريثما ينتهي إنشاء معامل جديدة بقدرة 700 ميغاوات وبكلفة مقدرة بنحو 875 مليون دولار (1.250 مليون دولار لكل ميغاوات)، وإنجاز أعمال التأهيل والصيانة في معامل الذوق والجيّة ودير عمار والزهراني وبعلبك وصور بكلفة 400 مليون دولار، وإنشاء معامل كهرباء عبر القطاع الخاص (خصخصة) بقدرة 1500 ميغاوات وبكلفة 1.5 مليار دولار (مليون دولار لكل ميغاوات)، وزيادة القدرات الإنتاجية من مصادر متفرقة مثل الهواء والماء والنفايات بقدرة 165 ميغاوات وبكلفة 450 مليون دولار.
المؤقت دائم
بدأ تنفيذ الشق المؤقت من الخطّة، أي شراء الطاقة من المولدات العائمة على مدى ثلاث سنوات. ووصلت أولى البواخر في نيسان 2013 «فاطمة غول»، ثم تلتها «أورهان بيه». بلغت كلفة هذا الخيار الذي يتضمن تشغيل البواخر وثمن الفيول، 522 مليون دولار في عام 2014، ثم تراكمت لتبلغ خلال ثلاث سنوات ما مجموعه 1.5 مليار دولار. في هذا الوقت، لم ينجز البديل الثابت أو الدائم. عندها، مُدّد للبواخر بقرار إداري لم يعرض على مجلس الوزراء، لسنتين إضافيتين. وجرى توسيع العقد معهما لاستجرار 100 ميغاوات إضافية بكلفة إجمالية بلغت 900 مليون دولار. مرّت السنتان على الحال نفسه، وانتهى الأمر بعرض الملف على مجلس الوزراء وصدور قرار بالتمديد للبواخر لثلاث سنوات إضافية وخفض سعر الكيلوات بنسبة 16% واستقدام باخرة إضافية بقدرة 200 ميغاوات حدّ أدنى بكلفة إجمالية تبلغ 1.160 مليون دولار.
الخيار المؤقت امتدّ من ثلاث سنوات إلى خمس سنوات فعلية، ثم جرى توسيعه وتمديده مجدداً حتى عام 2021، أي ما مجموعه ثماني سنوات. كلفة هذا الخيار الإجمالية ستبلغ في نهاية 2021، قياساً على أسعار النفط الحالية، نحو 3.5 مليارات دولار. وقد مضى على وجود المولدات العائمة في لبنان، نحو خمس سنوات، أي سُدِّد فعلياً نحو 2.3 مليار دولار. خلال هذه الفترة، كان الاستثمار شبه الوحيد في القدرة الإنتاجية، تلك المولدات الجديدة في الذوق والجية بقدرة 270 ميغاوات. باقي المشاريع الاستثمارية في القدرات الإنتاجية أُجهضت. تلزيم مشروع دير عمار 2 لزيادة 500 ميغاوات وُقّع سريعاً بعدما تبيّن أن العقد مع المتعهد لم يتضمن بنداً واضحاً ينصّ على أن ضريبة القيمة المضافة البالغة 50 مليون دولار هي على عاتق المتعهد. أما أعمال الصيانة، فهي أيضاً أحبطت بعدما تبيّن أن تأهيل معمل الجيّة لم يعد مجدياً، وأن كلفة تأهيل معمل الذوق باتت شبه مساوية لإنشاء معمل جديد… ما عدا المشاكل في شبكات النقل والتوزيع وإدارة التحصيل والصيانة مع عقود مقدمي الخدمات.
العجز الفعلي يبلغ 1770 ميغاوات
المشكلة الأساسية والكلفة الأكبر تكمن في القدرة الإنتاجية. نسبة الاعتماد على البواخر في السنوات الثلاث الأولى 18.5% من القدرة الإنتاجية الإجمالية في لبنان، ثم ارتفعت بعد تمديد العقد سنتين وتوسيع الاستجرار من البواخر بنحو 100 ميغاوات إضافية إلى 27.5%، وهي سترتفع مجدداً مع وجود باخرة ثالثة إلى 35%.
هكذا صار لبنان رهينة الاعتماد على استجرار الطاقة من المولدات العائمة. القدرة الإنتاجية الإجمالية (معامل لبنانية واستجرار من سوريا) تبلغ اليوم 1630 ميغاوات يضاف إليها الطاقة المستجرة من البواخر بقدرة 570 ميغاوات لتصبح القدرة القصوى الإجمالية 2200 ميغاوات. أما الطلب الإجمالي الأقصى في أوقات الذروة، فيبلغ 3400 ميغاوات، ما يعني أن العجز يبلغ 1200 ميغاوات (نحو 6 ساعات تقنين يومياً كمعدل وسطي). وإذا استثنينا وجود البواخر ضمن منظومة الإنتاج، فإن العجز الفعلي يبلغ 1770 ميغاوات، أي أكثر من 13 ساعة تقنين يومياً كمعدل وسطي وقت الذروة في كل المناطق.
قد تكون السنوات الثماني كافية للفصل بين الرمادية والسوداوية. بدا، خلال هذه الفترة، أن إنشاء معمل واحد بقدرة 500 ميغاوات، أمر شبه مستحيل. يثير هذا الأمر السخرية. نحتاج إلى إنشاء معامل بقدرة 1770 ميغاوات، أي أقل بـ 12 مرّة مما أنجز في مصر خلال 27 شهراً. لو استثمرنا ما دفع على الخيار المؤقت خلال السنوات الخمس الماضية، أي ما قيمته 2.3 مليار دولار، لكان لبنان يملك اليوم معملاً بقدرة إنتاجية تبلغ 4000 ميغاوات بالأسعار الحالية التي تعد أرخص بأكثر من 40% مما كان مطروحاً في خطة الكهرباء.
فخاخ وألغام
خيار الاستثمار من قبل الدولة في تنفيذ معامل مستدامة، يكاد يصبح مستحيلاً فقط في لبنان. التنفيذ في غالبية الأحيان يكون خارج الأصول، ودفتر الشروط تكون فيه بنود مطاطة وتفسح المجال أمام الاستنسابية، أما العقود، فهي ملغومة أيضاً. كذلك، ليست هناك صورة واضحة عن التمويل، وهناك مشكلة تتعلق بالأراضي اللازمة للمعمل، وهناك مشكلة تتعلق بتوفير الوقود ونوعه… هناك الكثير من العقبات والفساد الذي يأخذ طابعاً سياسياً قبل أن يتحوّل إلى مادة للسجال بين الزعماء. النقطتان الوحيدتان اللتان تستحوذان على شبه إجماع سياسي، هي خصخصة الكهرباء، ورفع التعرفة. المثير في الأمر أن هاتين النقطتين، بالنسبة إلى السياسيين، هما المدخل الأساس للانتفاع المباشر وغير المباشر.
الكلفة المدفوعة للطاقة من المعامل العائمة تبلغ 2.3 مليار دولار، وستتجاوز 3.5 مليارات دولار
في المقابل، لم تضطر الحكومة المصرية إلى خصخصة قطاع الكهرباء (سواء عبر البيع المباشر أو الشراكة مع القطاع الخاص) كما هو مطروح في لبنان. أيضاً لم تضطر إلى استئجار مولدات عائمة، بل اتخذت قراراً ومضت فيه مسجّلة سرعة قياسية في التلزيم والتنفيذ. أكثر من ذلك، بات لدى الدولة المصرية فائض يمكن تصديره. يتردّد أن الاتحاد الأوروبي يتفاوض مع الحكومة المصرية لمدّ خطوط نقل عبر البحر المتوسط من الإسكندرية إلى اليونان وقبرص لتصدير 1000 ميغاوات لكل واحد من البلدين. يتردّد أيضاً أن مصر تتفاوض مع الأردن لتصدير قسم من الفائض عبر شبكة الربط بينهما بعد تحديثها ورفع قدرتها التقنية.
هناك الكثير من الكلام عمّا ستفعله مصر، مقابل طروحات الخصخصة في لبنان التي يروّج لها تحت وطأة استفحال أزمة والتقنين وزيادة الاعتماد على المولدات الخاصة، سواء كانت بواخر أو مولدات الأحياء أو مولدات كبار المحتكرين في المناطق. أبرز مثال على ذلك، معمل دير عمار 2 الذي تحوّل تلزيمه من متعهد يطالب بأموال مقابل التزامات لم ينفَّذ منها شيء، إلى عقد خصخصة (BOT) يمتدّ على عشرين سنة. وهناك أيضاً تلزيمات الطاقة الهوائية للقطاع الخاص وسواها، فضلاً عن عقود الشراكة مع القطاع الخاص التي التزمها لبنان في مؤتمر باريس 4.
في لبنان، دائماً هناك شكل نمطي لأي قضية: هناك السلطة التي تعلم والباقي «جهلة». ظهر هذا الأمر في حديث الرئيس التنفيذي لشركة «سيمنز» وسيزار أبي خليل. تكرّر الأمر في الزيارة التي قام بها الوزير جبران باسيل يرافقه وزير الطاقة سيزار ابي خليل للمجلس الاقتصادي الاجتماعي. يومها طرح عضو المجلس صلاح عسيران أن تتفاوض الحكومة اللبنانية مع الجانب المصري للاستفادة من استغلال فائض الكهرباء لديها والمفاوضات مع الاتحاد الأوروبي لمدّ كابل طاقة إلى قبرص واليونان. يمكن أن يكون للكابل تفريعة تصبّ في لبنان. ردّ أبي خليل سريعاً: أخذنا خيارنا بالاعتماد على البواخر! على طريقته مع كايزر، أنهى أبي خليل النقاش في المجلس الاقتصادي الاجتماعي. مرّ الأمر ببساطة رغم وجود ممثلي كل الأحزاب اللبنانية في المجلس.
من ملف : بواخر الطوائف: نكايات ومصالح